للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الدِّيوان العزيز أن يطوي عمله عنه بما نشرت الأيام منه، ليعرف مكان النظر بتوقيفه عليه، وإيضاحه لديه، كل ذلك على سبيل التسديد والتهذيب، لا على وجه التوبيخ والتَّثْريب، وقد ذكرتُ الأسباب التي أخذها الدِّيوان العزيز عليه، واستغرب وقوعها من كماله، ليُرْعيها سَمْعَه الكريم، ويستوري فيها رأيه الأصيل القويم، ويُنصف في استماعها والإجابة عنها، غير عائج على الجدل، ولا مُوتَمٍّ بالمِراء المذمومَين شَرْعًا وعقلًا، بل يحملُ قولي هذا على سبيل المماحضة والانتصاح، وصدق النِّيَّة في رَأب الثَّأي (١) والإصلاح، فإنَّ اتِّخاذ الدَّواء الممر لا يُتَّهم فيه الطبيبُ المجتلب للعافية.

فمنها أَنَّ كل من نشد بالعراق غيرَ ضالَّتِهِ، واقتضى الأقضية بما لم يقض أَرَبه، أو جَهِلَ فَعُرِّف، أو اعوجّ فثُقّفْ، أو تهوَّر فوقف، أو أحوج إلى تهذيبه بالتأديب وسياسته، أو توجَّه عليه حقٌّ، فخاس به بخساسته، لا لعزته ونفاسته، لجأ إلى صلاح الدِّين -حَرَسَ الله مَجْدَه- في دَفْع حُدود الله وحقوقِ النَّاس عنه، فصار كساده عنده نَفَاقًا، ووجوب حرمانه لديه استحقاقًا، ووجد عنده الإقبال عليه، والقَبول والمسامحة له بكل ما يتسمَّجُ به ويقول، حتى سرى ذلك في كثير من سفهاء جنود أمير المؤمنين وأصحابه، وشاع عنهم التسمُّج فيما لا يصلح، وإلاقة (٢) الأَلْسن فيما لا يحسن، والاجتراء إلى كلِّ مقول تحظِّره الأديان والعقول، ويكرهه الله والرسول، ويَزْجُر عنه المرويُّ والمنقول، وينبو بقائله عن الصِّراط المستقيم، ويؤتي إلى كلِّ أمرٍ مُظْلمٍ بهيم، ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ [النور: ١٥] فتوهَّم هذا أنه لو لم يكن لهذه الأعلاق عنده نَفاق، لما قامت بها لديه الأسواق، وقد كان الورعُ الدِّيني والأدب الدنيوي يوجبان على صلاح الدين -حَرَسَ الله نعمته- أن يقف في رضاه وسخطه، واعطائه ومَنْعه، وتقريبه وإبعاده، وحِرْمانه وإسعاده عند إشارة الدِّيوان العزيز، ولا يكون له إرادةٌ في نفسه، فيقيم على هيبة الخِدْمة الشَّريفة، حسيبًا على ملامح الألحاظ، ومخارج الألفاظ، ومظانّ الإيماء والإيماض، حتى لا يكون لأحدٍ مطمعٌ في أن لا يكون بمرأى من الدِّيوان ومَسْمع، فإنَّ صلاح الدين هو العُدَّة لقَمْعِ الأعداء بالسُّيوف وإِصْلاتها، فكيف بكفِّ الألسنة الهاجرة واسكاتها؟ وأعجبُ الأشياء أَنَّه يظنُّ انطواء هذا


(١) الثأي: الإفساد، يقال: رأب الثأي: أي أصلح. "معجم متن اللغة": ١/ ٤٢٢.
(٢) ألق يألق ألقًا وإلاقًا: انبسط لسانه بالكذب."معجم متن اللغة": ١/ ١٩٧.