للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في تلك الأيام السعيدة المقتفية -قدَّسها الله تعالى- لأنه كان يومئذٍ نائبَ الدِّيوان العزيز في ذلك الطَّرف بالشرْع في أمر مِصْر، وأن يُعملَ فِكْره، ويستوريَ رأيه، وينتضيَ عزمه، وأنْ يهجرَ الدَّعَة، متجرِّدًا في نَصَبه وانتصابه، إلى أَنْ يستقرَّ حقُّها في نصابه، وكان أسدُ الدين شيركوه ظهيره يومئذٍ، فتظاهرا على امتثال ذلك المرسوم، وأصَّلا لذلك الأمر أساسًا، وفتلا له أمراسًا، وكان صلاحُ الدين المخصوص باختتام مناقبها، واعتلاء مراقبها، والاستئثار بفخر صدورها، فتقدَّمَ الدِّيوان العزيز بقِدَمِ أسبابه حتى أقدم، وابتدائه حتى تمَّم، واحتطب له حتى أضرم، وهل كانت نائبة مِصْر إلا طيفًا حلم به الزَّمان، ورقيمة كُفْرٍ محاها الإيمان، ومَعْلَمَ باطلٍ زَحَفَ به الحقّ، فدرس عفاء، وزبدًا احتمله السَّيل فذهب جُفاءً، وإنْ أنصفَ صلاحُ الدين عَلِمَ أَنَّه ما فتح تلك الأَرْتاج، وتسنَّى تلك الاستزادة إلا بيُمْن آراء الدِّيوان العزيز وتسديده، ولا فتح أقاليمها إلا بتقليد تقليده، فإنَّه استند من عِزِّ الخلافة الشَّريفة إلى حَوْلٍ لا يُحاول، وسما من طَوْدِها إلى طَوْدٍ لا يُطاول، وجاش من جُيوشها بصلالٍ لا يُصاول، فذلَّ له كلُّ صَعْب، والتأم به كلُّ شِعْب، وأسلست له المصاعب قِيادَها، وقرَّبت له الآمالُ آمادها، حتى أباح تلك الأرضين وأبادها، وفَرَسَتْ ثعالبه آسادَها، ورسا أصل إمرته ورسخ، وسما فَرْعُها وشمخ، وكذلك كلُّ مَنْ تقدَّم وسلف، وكذا يكون كل من تأخر وخَلَف، ممن عَصَبَتْ عليه النباهة تاجًا، ونَصَبَتْ له الرِّياسة مِعْراجًا، فَمَن الذي ارتفع شأنه إلا بإعلائها، ولُويَتْ له الرِّقابُ إلا بلوائها، أو نَبُهَ اسمٌ إلا بتنويهها وإسمائها، وأخصب له جنابٌ إلا في رَوْضها المَرُود، أو نَقَعَ له أُوام مرامه إلا من حَوْضها المورود، أَوْ علت له ذروةُ مجدٍ إلا على ضوامرها القُود، أو رأى يومًا أبيض إلا تحت راياتها السُّود، وهذا كلُّه لا أقوله إنكارًا لجلائل مقاماتِ صلاح الدين، ومشاهير مواقف جهاده في سبيل الله تعالى ونَصْرِ المسلمين، ولا طمسًا لآثار مآثره التي طرَّزت السِّيَر، ولا رينًا على أيامه الواضحة الغرر، ولا جَحْدًا لمناقبه في النِّضال عن الدولة القاهرة، والنصح لدعوتها الهادية، وركوب الأخطار في إعلاء كلمة الدين حتى قام أوده، وجثومه على رجفان الزَّمان حتى سكن ميده. وإنه -أدام الله علوَّه- رجل وقته، ونسيج وَحْدِه، والمُرْبي على كلِّ من سَلَفَ من صنائع الدَّولة القاهرة، وعلى من يأتي من بعده، ولكنه الولي المخلص، الذي