للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وفيها كانت حوادث عظيمة [لم يتجدَّد مثلها في السنين الماضية] (١)، منها هبوط النيل، ولم يعهد ذلك في الإسلام إلا مرَّة واحدة، فإنَّه بقي منه شيءٌ يسير، واشتدَّ الغلاءُ والوباءُ بمِصْر، فَهَربَ النَّاسُ إلى المغرب والحجاز واليمن والشَّام، وتفرَّقوا أيدي سبأ، ومُزِّقوا كلَّ ممزَّق [أعظم من سنة اثنتين وستين وأربع مئة في أيام المستنصر، فإن الناس في هذه السنة] (١) كان الرجل يذبح ولده الصَّغير، وتساعِدُه أُمُّه على طبخه وشَيِّه (٢) وأحرق السُّلْطان جماعةً فعلوا ذلك ولم ينتهوا، وكان الرَّجل يدعو صديقه، وأحبَّ النَّاس إليه إلى منزله ليضيفه، فيذبحه ويأكله، وفعلوا ذلك بالأطباء كذلك [وكانوا يدعونه ليبصر المرضى فيقتلونهم ويأكلونهم] (١)، وفقدت الميتات والجيف [من كثرة ما أكلوها] (١)، وكانوا يخطفون الصِّبْيان من الشوارع فيأكلونهم. وكَفَّن السُّلْطان في مُدَّة يسيرة مئة ألف وعشرين ألفًا، وامتلأت طرقات المغرب والحجاز والشَّام برمم الناس، وصلَّى إمامُ جامع الإسكندرية في يوم على سبع مئة جنازة.

وقال العماد الكاتب: وفي سنة سبع وتسعين [وخمس مئة] (١) اشتدَّ الغلاء، وامتدَّ البلاء، وتحقَّقتِ المجاعة، وتفرَّقت الجماعة، وهلك القويُّ فكيف الضَّعيف؟ ونحف السمين فكيف العجيف؟ وخَرَجَ النَّاس حَذَرَ الموت من الدِّيار، وتفرَّق فريق مِصْر في الأمصار، ولقد رأيتُ الأرامل على الرِّمال، والجمال باركة تحت الأحمال، ومراكب الفرنج واقفة بساحل البحر على اللَّقَم، تسترقُّ الجِياعَ باللُّقَم.

وجاءت في شبعان زلزلة هائلة من الصَّعيد، فعمَّت الدُّنيا في ساعةٍ واحدة، هدمت بنيان مِصْر، فمات تحت الهدم خَلْقٌ كثير، ثم امتدَّت إلى الشَّام والسَّاحل فهدمت مدينةَ نابُلُس، فلم يبق فيها جدار قائم إلا حارة السمرة، ومات تحت الهَدْم ثلاثون ألفًا، وهَدَمَتْ عكا وصور، وجميعَ قِلاع السَّاحل (٢)، وامتدَّت إلى دمشق، فَرَمَتْ بعض المنارة الشَّرْقية بجامع دمشق، وأكثر الكلَّاسة، والمارَسْتان النُّوري، وعامة دور دمشق إلا القليل، فَهَرَبَ النَّاس إلى الميادين، وسَقَطَ من الجامع ست عشرة شرافة، وتشقَّقت


(١) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).
(٢) قال الذّهبي في "السير": ٢٢/ ٢٢٠: وهذه مجازفة ظاهرة.