للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وصغر سنه، لأظهرت أمره وأَوْطأتُ العرب كعبه.

ثم أمر لكل واحد من القوم بمئتي بعير وعشرة أعبُد وعشرة إماء، وعشرة أرطال فضة، وخمسة أرطال ذهب، وكِرش مملوءة عنبرًا، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك، وقال: إذا كان في رأس الحول، فأتني بخبره وما يحدث من أمره. فتوفي الملك قبل رأس الحَوْل، وكان عبد المطلب يقول لأصحابه: لا تغبطوني بعطاء الملك وجزيله، ولكن اغبطوني بما أسرَّه إلي، فيقولون: وما الَّذي أسرَّه إليك؟ فيقول: ما شاء الله ويسكت. وكان كلما رأى من النبي مخايل ما قال له الملك، يقول: أنا أبو الحارث، ما رميت غَرضًا إلا أصبته.

وكانت هذه الوفادة ولرسول الله ثلاث سنين.

وقال ابن سعد: أول من خضب بالسواد من قريش: عبد المطلب، كان قد سافر إلى اليمن، فنزل على رجل من حِميَر -وكان قد شاب- فعلَّمه الخضاب، فلما قدم مكة، كأنَّ شعره من حَلَك الغراب، فقالت له زوجته نُتَيْلَة بنت جَناب بن كُلَيب أم العباس: يا شيبة (١)، ما أحسن هذا لو دام، فقال عبد المطلب: [من الطويل]

لو دَامَ لي هذا السَّواد حمِدتُه … وكانَ بَديلًا مِن شَبابٍ قدِ انصَرَمْ

تمتَّعتُ منه والحياةُ قَصِيرةٌ … ولا بُدَّ من مَوْتٍ يُواتي ومِنْ هَرَمْ

وماذا الَّذي يُجدِي على المَرْءِ خفضه … ونعمتُه يومًا إذا عَرْشُه انهَدَمْ

ثم خضب أهل مكة بالسواد.

وقال ابن إسحاق: كان عبد المطلب من سادات قريش جسيمًا وسيمًا محافظًا على العهود والأمانات، متخلِّقًا بمكارم الأخلاق، يحب المساكين، ويعظم الظلم، ويقمع الظالمين، ويقوم بالحجيج، ويُطعم في الأزمان، ويكثر الصدقة والطواف، إذا أهلَّ رمضان دخل غار حراء يتعبد فيه طول الشهر، ورأى رجلًا يضرب رجلًا وليس له ناصر، فقال: يوشك أن يكون لنا دار أخرى، وقال: إن كان للقطيع راعٍ، فسيقتصُّ للجَمَّاءِ من القَرْناء، وإن لم يكن فالمصيبة بفقده أعظم. وكان يطعم حتَّى الوحوش


(١) في (خ): شبيب، وفي (ك): شيب، والمثبت من "الطبقات الكبرى" ١/ ٦٧ - ٦٨.