للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكان أبو مسلم إذا انصرفَ من المسجد إلى منزله كبَّر على باب منزله، فتجيبُه زوجتُه بالتكبير، فإذا كان في صحن الدار كبَّر فتُجيبُه امرأتُه، فإذا بلغ إلى باب البيت كبَّر، فتُجيبه. فانصرفَ ذاتَ ليلةِ إلى باب منزلِه، فكبَّر، فلم يُجبه أحد، فدخل فكبَّر في صحن الدار، فلم يُجبه أحد، فكبَّر على باب البيت، فلم يُجبه أحد. وكان من عادة زوجته إذا دخلَ بيتَه قامت إليه، فنَزَعَتْ رداءه، وأخَذَتْ نعليه، وجاءَتْه بطعام يُفطر عليه، فلم تقُم إليه. فدخل البيت، وإذا ليس فيه سراج، وإذا بامرأته جالسةٌ منكِّسةَ الرأس، فقال لها: ما لكِ؟ فقالت: أنتَ لك من معاوية منزلةٌ، وليس لنا خادم، فلو سألتَه فأخْدَمَنا خادمًا. وقد كانت جاءَتْها امرأةٌ قبل ذلك، فقالت: إنَّ زوجَكِ له منزلةٌ من معاوية، فلو أخبرَه بحالكم، فأَخْدَمَكُم خادمًا نَعَشْتُم. فلما قالت له امرأته ذلك فهم، فرفعَ يديه وقال: اللَّهم من أفسدَ عليَّ امرأتي أفْسِدْ عليه بصرَه. فبينا تلك المرأة جالسةٌ في بيتها إذْ أنكَرَتْ بصرَها، فقالت لأهلها: ما لِسراجِكم قد طَفِئ؟ فقالوا: ما طَفِئَ. فعلمَتْ من أين أُتِيَتْ، فقالت: قودوني إلى دار أبي مسلم، فقادوها (١) إليه وهي تبكي وتسألُه أن يدعوَ لها. فرقَّ لها ورحمها، وسألَ اللهَ، فردَّ عليها بصرَها، ورجعت المرأة إلى الحال التي كانت عليها (٢).

وقال أبو مسلم: ما طلبتُ من الدنيا شيئًا فوفي (٣) لي، حتى لقد ركبتُ حمارًا مرَّة، فلم يمش، فنزلتُ عنه، فركبَه غيري، فمشى، ونمتُ ورأيتُ قائلًا يقول لي: لا تحزنْ على ما زُويَ عنك من الدنيا، وإنما يُفعل هذا بأوليائه وأحبابه وأهل طاعته. فسُرِّيَ عني.

وقال: تركُ الذنب خيرٌ من التوبة.

وكان يقول: لأَن يولدَ لي مولودٌ يُحسِنُ اللهُ نباتَه؛ حتى إذا استوى على شبابه وكان أعجبَ ما يكون إليّ؛ قبضه اللهٌ مني؛ أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها (٤).


(١) في (م): ودُّوني ..... فودُّوها.
(٢) تاريخ دمشق ص ٥٠٧، وصفة الصفوة ٤/ ٢١٢.
(٣) كذا في (ب) و (خ). وفي (م): شيء فوتي. وفي "صفة الصفوة" ٢/ ٢١٢: فوُلّي.
(٤) حلية الأولياء ٢/ ١٢٧، وصفة الصفوة ٤/ ٢١٣.