للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فلما قدم المدينة نزل قريبًا من عبد الله بن جعفر، فدخل عليه بعضُ خدمه، فأخبره بقدومه وقال: ضَيفُك العراقي الذي صنع بك ما صنع، قد قدم ونزل بالعرصَة لا حَيَّاه الله -وكان ابن جعفر قد وَجَد لفراقها وَجْدًا عظيمًا- فقال عبد الله: أكرموه.

وجاء الرجل يطلب الإذنَ على عبد الله، فأذن له، فدخل وقَبَّل يده، وقص عليه القصة، وقال: قد وَهبتُها لك، والله ما وضعتُ يدي عليها، ولا رأيتُ وَجهها إلا عندك، وأحضر الجارية وما معها من الجَهاز، فلما رأت ابن جعفر خرَّت مغشيًّا عليها، وخرج العراقي، وصاح أهل الدار: عمارة عمارة، وجعل ابن جعفر يقول: أحلم هذا؟ أحق هذا؟ أصدق هذا؟

ثم بعث إلى العراقي فأحضره، ودفع له عشرة آلاف دينار وقال: هذه ثمنُها، وهذه ثلاثة آلاف أخرى لك، ولو وصلتُكَ بالدنيا وما فيها لرأيتُك أهلًا لذلك، فقال العراقي: والله ما ردّها عليك إلا عملُك بالحقّ، وصبُرك عليه، ووفاؤك بقولك، وانقيادُك إليه، وتورُّعك عن اليمين، وانصرف العراقي شاكرًا (١).

[واختلفوا في وفاته، فحكى ابن سعد، عن الواقدي قال:] مات عبد الله بن جعفر سنة ثمانين، وهو عام الجُحاف [؛ سيل كان بمكة، جَحف الحاج وذهب بالإبل وعليها الحُمولة]، وكان الوالي يومئذ على المدينة أبان بن عثمان، وهو صلى عليه، [وكان يوم مات ابن تسعين سنة، قال:] وكان أبان صديقًا له كثير الغِشْيان لداره، فحمل سريرَه بين العمودين، فما فارقه حتى وضعه بالبقيع؛ وإن دموعَه لتسيلُ على خدَّيه، وهو يقول: كنتَ والله خيرًا لا شرَّ فيك، وكنتَ والله شريفًا واصلًا برًّا، كنتَ والله وكنت، [قال:] والوَلائدُ خلف سريره قد شَقَقْن الجُيوب، والناس يَزدحمون على سريره.

[وقال الواقدي: وكان ابن جعفر] قد خَرِب فوه، وسقطت أسنانه من الكبر، فكان يُعمَل له الثَّريد والشيء الليّن فيأكله، وكان إذا قيل له: إنك ليس تأكل؛ شقَّ عليه ذلك.

[هذا صورة ما حكاه ابن سعد (٢)، عن الواقدي في وفاته، وسنه، والصلاة عليه].


(١) "المنتظم" ٦/ ٢١٥ - ٢١٩، و"تاريخ دمشق" ٥٨ - ٦١، وما بين معكوفين من (ص).
(٢) في طبقاته ٦/ ٤٦٩ - ٤٧٠.