للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومنهم آخر يقال له: ابن عائشة، وقال ابن الكلبي: كان ابن عائشة من أحسن الناس خَلْقًا وغناءً، وأضيقهم خُلُقًا؟ إذا قيل له: غنِّ يقول: ألمثلي يقال هذا؟ عليَّ عِتقُ رَقَبة إن غنَّيتُ يومي هذا كلّه، وإذا قيل: أحسنتَ يقول: ألمثلي يقال هذا؟ عليّ عِتقُ رَقَبة إن غنيتُ في يومي هذا.

فلما كان في بعض السنين سال وادي العَقيق، فلم يبق بالمدينة بِكر ولا عاتِق، ولا شابّ، ولا كَهْلٌ، ولا شيخ، إلا وخرجَ يُبصر السيل، فخرج ابنُ عائشة وهو مُعْتَجِرٌ بفضلِ ردائه، وكان الحسن بن علي بن أبي طالب قد خرج فيمن خرج، وبين يدي الحسن غِلمانه، وفيهم أسودان كالسَّارِيَتين، فقال لهما الحسن: والله لئن لم تفعلا ما أقول لكما لأفعلنّ بكما ولأصنعن، اذهبا إلى المُعْتَجِر بردائه، فخذا بضَبْعَيه، فإن فعل ما آمره به وإلا فاقذفاه في العَقيق، فلم يشعر ابن عائشة إلا وقد أخذا بضَبْعَيه والحسن خلفهما، فقال الحسن: أنا فلان، فقال: مرحبًا بك وأهلًا، ما الذي تأمر؟ فقال: أقسم بالله لئن لم تُغنِّ مئةَ صوت ليَقذفَنَّك هذان في العقيق، فصاح ووَلْول، فقال له الحسن: دع عنك هذا وخذ فيما يُخَلِّصُك، فقال: سمعًا وطاعة، أقِمْ مَن يُحصي عليَّ، وشرع في الغناء، فترك الناس العَقيق وأقبلوا عليه، فلما غنّى مئةَ صوت كبَّر الناسُ تكبيرةً واحدة ارتجَّت لها المدينة وأقطارها، ودَعَوا للحسن وقالوا: صلى الله على روحك حيًّا وميتًا، فما اجتمع لنا سرور مثل اليوم.

ولما عاد الحسن إلى المدينة أرسل إليه بدنانير وثياب وطيب كثير وقال: ما فعلتُ بك ذلك إلا لشراسة أخلاقك، فكان ابن أبي عتيق يقول: ما مرَّ بي مثل يوم العَقيق (١).

قصة ابن أبي عَتيق مع عثمان بن حيَّان المُرِّي:

حكى ابن الكلبي، عن أبيه قال: لما ولي عثمان المدينة حَرَّم الغناء، وكان ابنُ أبي عَتيق غائبًا، فقدم فنزل على سلَّامة الزَّرقاء -وكانت حاذقةً بالغناء- فأخبرته، فدخل على عثمان فصوَّب رأيَه في تحريم الغناء، ثم قال له: هل لك في امرأة أرسلتني إليك


(١) "العقد" ٦/ ٣٥ - ٣٦.