للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هذا خطاب بلسان العِبْرة والموعظة والحال، لا بلسان الحقيقة والمقال.

وقال: قال عمر Object لرجل من جلسائه: يا فلان، لقد أرِقْتُ الليلةَ مفكِّرًا. قال: فيم؟ قال: في القبر وساكنه، إنك لو رأيتَ الميِّتَ في قبره بعد ثلاث لاستوحشتَ منه بعد طُول الأُنس، فإنك ترى الهوامَّ والصديد، مع نتن الريح، وبِلَى الأكفان بعد حُسن الهيئة. ثم شهقَ وغُشيَ عليه، فقالت فاطمة لمولاه مزاحم: أَخْرِجْ هذا الرجل عنَّا. وجعلت تصبُّ الماء على وجهه وتبكي وتقول: ليت حِيلَ بيننا وبين هذا الأمر، فواللهِ ما أصبنا خيرًا منذ وقعنا فيه. فأفاق، فرآها تبكي، فقال: ما الَّذي بكِ؟ فقالت: ذكرتُ مصرعَك بين يدي الله، وفراقَنا لك، فذلك الَّذي أبكاني. فقال: حسبُكِ يا فاطمة، فقد أبلغْتِ. ثم مال فسقط، قالت: فضممتُه إلى صدري وقلت: بأبي أنتَ وأمي، ما نستطيعُ أن نكلِّمك بكلِّ ما نجدُ لك في صدورنا. فلم يزل على حاله حتَّى حضرت الصلاة، فناديتُه، فانتبَهَ فَزِعًا (١).

ذكر جماعة من الوافدين عليه من الشعراء وغيرهم:

لما استُخلف عمرُ بنُ عبد العزيز Object؛ وفدَ عليه الشعراء، فأقاموا ببابه مدَّة لا يصلون إليه، وكانوا جماعة؛ منهم جرير، والفرزدق، وعمرُ بن عبد الله بن أبي ربيعة (٢)، والأخطل، والأحوص، وكُثيِّر عَزَّة، ونُصَيب، وغيرهم.

فمرَّ بهم عَوْنُ بنُ عبد الله بن عُتبة بن مسعود الهُذَليّ، فناداه جرير فقال:

يا أيُّها الرجلُ المُرْخِي عِمَامَتَهُ … هذا زمانُك إني قد مضى زمني

أَبْلِغْ خليفتَنا إنْ كنتَ لاقِيَهُ … أنِّي لَدَى البابِ كالمصفود في قَرَنِ

لا تنسَ حاجتَنا لَقِيتَ مغفرةً … قد طال مُكْثِيَ عن أهلي وعن وطني

قال كُثَيِّر (٣): قدمتُ أنا والأحوص ونُصَيب على عمر، وكلُّ واحدٍ منَّا يُدِلُّ بسابقته عندَه، فكان أوَّلَ مَنْ لقِينا مَسْلَمةُ بنُ عبد الملك، وهو يومئذ فتى العرب، وكلٌّ منَّا ينظر في عِطْفَيه، لا يظنُّ أنَّه شريكُ الخليفة، فأنزَلَنا مسلمةُ عنده، وأحسنَ ضيافتنا، وأكرمَ


(١) حلية الأولياء ٥/ ٢٦٨ - ٢٦٩، وتاريخ دمشق ٥٤/ ١٩٠، والبداية والنهاية ١٢/ ٧٠٤ - ٧٠٥.
(٢) في ذكر عمر بن أبي ربيعة في هذا الخبر نظر، فقد مات سنة (٩٣) واستُخلف عمرُ بنُ عبد العزيز Object سنة (٩٩).
(٣) هذا مطلع رواية أخرى غير التي قبلها، وقد جمع المصنف (أو المختصر) بينهما، لكنه وقع في ذلك تناقض فيما جرى للأحوص فيهما. ينظر: الأغاني ٩/ ٢٥٧، والعقد الفريد ٢/ ٩١، والمنتظم ٧/ ٣٥ - ٤٢ (وفيه الروايتان).