للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

واللهُ أنزلَ في الكتابِ فريضةً … لابنِ السبيلِ وللفقيرِ العائلِ

ثم وقف بين يديه، فقال له عمر ﵁: يا جرير، اتَقِ الله، ولا تَقُلْ إلا حقًّا. فقال:

أَأَذْكُرُ الجَهْدَ والبلوى التي شملَتْ … أم أكتفي بالذي أُنبئتَ من خَبَرِي

كم باليمامة من شعثاءَ أرملةٍ … ومن يتيمٍ ضعيفِ الصوتِ والبصرِ

فمَن يُرَجَّى له من بعدِ والدِه (١) … كالفرخ في العُشِّ لم ينهض ولم يَطِرِ

فبكى عمر بن عبد العزيز حتَّى بل الأرض بدموعه. ثم قال جرير:

يدعوك دعوةَ ملهوفٍ كأنَّ به … خَبْلًا من الخوفِ أو شيئًا من الشَّررِ (٢)

ما زِلْتُ بعدَك في هَمٍّ يؤرِّقُني … قد طال في الحيِّ (٣) إصعادي ومنحدري

الخيرُ ما دُمْتَ حيًّا لا يفارقُنا … بُوركتَ يا عُمرَ الخيراتِ من عُمرِ

زاقَ (٤) الخلافةَ إذْ كانَتْ له قَدَرًا … كما أَتَى ربَّه موسى على قَدَرِ

هذي الأراملُ قد قَضَيتَ حاجتَها … فمن لحاجةِ هذا الأرملِ الذكَرِ

فقال له عمر: يا جرير، إني لا أرى لك حقًّا ها هنا، إن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ [التوبة: ٦٠] فمن أيّ الأصناف أنت؟ قال: أنا ابنُ سبيلٍ منقَطَعٌ به. قال: أولستَ ضيفَ أبي سعيد (٥)؟ يعني مسلمة. قال: بلى. قال: ما كُنْتُ أحسب أن ضيفَه يكون منقَطَعًا به، وما أرى لك حقًّا. قال: يا أمير المؤمنين إني فقير. قال: لا من أبناء المهاجرين، ولا من أولاد الأنصار، ولا من أولاد التابعين. فقال مسلمة: يا أمير المؤمنين، قد عوَّده الخلائف الإحسان، وإنَّ مثل لسانه ليُتَّقى. قال: يا جرير، عندي عشرون دينارًا، وأربعة أثواب. فدفعها إليه، فلما خرج قال له الشعراء: ما وراءَك؟ قال: إمام يعطي الفقراء، ويمنع الشعراء (٦).


(١) بدل هذا الشطر في "الديوان" ص ٢١١، و"العقد الفريد" ٢/ ٩٥: ممَّن يعدُّك تكفي فَقْدَ والدِهِ.
(٢) في الديوان": خَبْلًا من الجنِّ أو خبلًا من النَّشَرِ.
(٣) في "الديوان": ما زلتُ بعدك في دار تعَرَّقني قد عيَّ بالحيِّ …
(٤) في "الديوان" ص ٢١١، و"العقد الفريد" ٢/ ٩٦، و"مختصر تاريخ دمشق" ٦/ ٤٨: نال.
(٥) في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها): أبي شاكر. وهو خطأ .. وينظر "الأغاني" ٩/ ٢٥٨.
(٦) هنا تنتهي إحدى روايتي الخبر، وما بعده تتمة الرواية الأخرى، وقد جمع المصنف بينهما، وقد سلف الكلام عليه.