للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولما خاضت الخيلُ حفرت السنابك مواضع الخائض، فصارَتْ سِباخة، فكان بعضهم يميل مع الشاء، فيقع عن دابَّته، فأمر أسد بإلقاء الشاء في النهر، وأن يعبُر الناس، فما استكملوا العُبور حتى طلعت طلائع التُّرك على الخيل الدُّهْم، فقتلُوا من لم يعبُر، ومَنْ بقيَ ألقى نفسه في النهر فغرق. وإذا خاقانُ قد أقبل، فلما رأى النهر وقف وقال لأصحابه: ما ترون؟ فقال بعضهم: ما نقدرُ على قطعه، وقال آخرون: بلى، نحن خمسون ألفَ فارس، فإذا اقتحمنا جملةً ردَّ بعضُنا عن بعض جِرْيَةَ الماء. فاقتحموا النهر بأجمعهم.

فلما رأى المسلمون ذلك، وما كانوا يظنُّون أنهم يقطعون النهر، فدخل المسلمون عسكرهم (١)، وخندقوا عليهم، وأدخلُوا معهم أثقالهم، وخرج الغلمان بالبراذع والعَمَد (٢)، فضربوا وجوه التُّرك، فأدبَرُوا، وبات أسد والتُّرك مُقابِلَهُ.

وبلغ خاقان أنَّ الأثقال مع إبراهيم بن عاصم أمامَ أسد، فسار يطلبُها، فأرسل أسدٌ يحذّرُه ويقول: خاقانُ قاصدٌ إليك، فاستعدَّ، وبعثَ به مع فارس يقال له: سعيد الصغير، وقال له: اِلْحَقْ بإبراهيم قبل الليل، وإلا قتلتُك، فقال: ادفع إلي فرسَك الكُمَيت الذَّنُوب، فدفعَه إليه وقال: لئن جُدْتَ برُوحك وأبخلْ (٣) عليك بفرسي إنَّني لئيم.

وسار الرجل، واستشار أسدٌ أصحابه وقال: ما تَرَوْن؟ ننزلُ أم نسير؟ فقالوا: اِقْبَلِ العافية، وماذا عسى أن يكون من الأثقال مع سلامة نفوسنا؟! ونصرُ بنُ سيَّار ساكتٌ، فقال له: ما عندك؟ قال: المسير، فإن أدركنا الأثقال خلَّصناهم، وإلَّا قطعنا مسافةً يُحمدُ قطعُها. فقَبِلَ رأيه وسار.


(١) كذا في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها). وعبارة الطبري ٧/ ١١٦: فلما رأى المسلمون اقتحام التُّرك ولَّوا إلى العسكر، وعبرت التُّرك، فَسَطَعَ رَهَج عظيم لا يُبصر الرجل دابَّته، ولا يعرف بعضهم بعضًا، فدخل المسلمون عسكرهم … إلخ.
(٢) البراذع جمع بَرْذَعة -وتقال بالمهملة- وهي ما يوضع على الحمار أو البغل ليُركب عليه. والعَمَد، جمع عمود.
(٣) في "تاريخ الطبري" ٧/ ١١٧: "وبخلت". وهو أحسن.