للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأقبلوا يذمُّونها، فقالت لهم: أرى الدنيا بئرًا نبعُها في قلوبكم. قالوا: وكيف؟ قالت: لأنكم نظرتُم إلى أقرب الأشياء من قلوبكم فتكلمتُم فيه، ومن أحبَّ شيئًا أكثَرَ من ذكره.

وكانت تقول: أستغفر الله [من قِلَّة صدقي في قولي: أستغفرُ الله] (١).

ودخل عليها سفيان الثوري فقال: واحُزْناه! فقالت: لا تكذبْ. قال: فما أقول؟ قالت: قُل: واقِلَّة حُزْناه؛ لأنك لو كنتَ محزونًا ما هنَّاك عَيش.

وكتب إليها سلَيمان بنُ علي والي البصرة يخطبُها، وقال في كتابه: أما بعد، فإنَّ لي من غلَّتي في كلِّ يوم مئةً وعشرين ألف درهم، ولن تذهب الأيامُ والليالي حتى يصير لي مئتا ألف درهم، وإني راغبٌ فيك، والسلام.

فكتبت خلف الكتاب: أما بعدُ، فإن الزهد في الدنيا راحةُ القلب والبدن، والرغبةُ فيها تُورث الهمَّ والحَزَن، وما يسرُّني أن الله تعالى خوَّلني أضعافَ ما خوَّلك وشغلني به عنه طَرْفةَ عين، فإذا قرأتَ كتابي هذا فاجعل الموت نُصبَ عينيك، فكأنْ قد جاء، والسلام.

وقالت عَبْدة بنتُ أبي شوال وكانت تخدِمُ رابعة: كانت رابعة تصلّي الليلَ كلَّه، فإذا طلع الفجر هَجَعَتْ في مصلَّاها هَجعةً خفيفة حتى يُسْفر الفجر، ثم تَثِبُ إلى الصلاة فَزِعةً، وتقول: يا نفسُ كم تنامين! وإلى كم لا تقومين! يوشك أن تنامي نومةً لا تقومين منها إلا بصرخة يوم النشور. فكان هذا دأبَها طول عمرها.

وقال عبد الله بنُ عيسى: طبخت رابعةُ قدرًا، فاحتاجت إلى بصلة، ولم تكن عندها، فجاء طائر في منقاره بصلة فألقاها إليها.

وقال مِسْمَع بنُ عاصم: قالت رابعة: اعتللتُ علَّة، فمنعني عن قيام الليل والتهجد، فأقمتُ أيامًا أقرأُ وردي إذا ارتفع النهار؛ لما يُذكر أنه يعدِلُ قيامَ الليل، ثم إنَّ الله رزقني العافيةَ، فاعتادتني فترة في عقب العلَّة، وكنتُ قد سكنتُ إلى قراءة جزئي في النهار، وانقطع عنَي قيامُ الليل، فبينا أنا راقدةٌ ذات ليلةٍ رأيتُ في منامي كأنِّي رُفِعتُ إلى روضة خضراء ذات قصور، فبينا أنا أتعجبُ من حسنها إذ بطائرٍ أخضر وجارية تطاردُه كأنها تريد أَخْذَه، فشغلني حسنُها عن حسنه، فقلتُ: ما تريدين منه؟ دعيه؛ فوالله ما رأيتُ


(١) ما بين حاصرتين من صفة الصفوة ٤/ ٢٨.