للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لا أوسِّدَك الأرضَ سنة إلَّا من عذر، وجعل يوبِّخُها ولا يعلمُ بمكاني، فانصرفتُ وتركتُه.

وكان رياح إذا صلى على البواري يُسمَع لدموعه عليها وقعٌ كوقعِ المطر: طَقْ طَقْ.

وربما وُجد في بعض سكك المدينة مغشيًا عليه من الخوف.

وكان له مِسْحٌ من شَعر، وغُلُّ من حديد، فكان إذا جنَّهُ الليلُ لبس المسح وجعل الغُلَّ في عنقه، وبكى وتضرَّع إلى الصبح.

وقال الحارث بن سعيد: أخذ بيدي رياح وخرج بي إلى المقابر وقال: تعال حتى نبكي على ممرِّ الساعات ونحن على هذه الحال، ثم صرخَ ووقعَ مغشيًّا عليه، ثم أفاقَ وهو يقول: وانفسَاه وانفسَاه، ثمَّ قال: لنفسك فابك، ثم قام من غشيته وهو يقول: "تلك إذًا كرة خاسرة" فلم يلبث إلَّا أيَّامًا حتى مات، وكانت وفاته في هذه السنة.

أسند عن حسان بن أبي سنان وطبقته، وشغله التعبُّد والخوفُ والبكاءُ عن الرواية (١).

[ضيغم بن مالك العابد]

كان من الخائفين البكائين المحزونين، وهو من الطبقة الخامسة من أهل البصرة، كان وردهُ في كلِّ يوم أربع مئة ركعة، وكان يركعُ حتى لا يقدر أن يسجد، ثمَّ يرفعُ رأسه إلى السماء ويقول: قرَّةَ عيني، كيف عزفت قلوبُ الخليقة عنك؟!

وقال أبو أيوب مولى ضيغم: سمعته يقول: إلهي، لو أعلمُ أن رضاكَ في قرضِ لحمي لقرضته بالمقاريض.

وقال مالك بن ضيغم: قالت أم ضيغم له يومًا: ضيغم، قال لها: لبيك يا أماه، قالت: كيف فرحك بالقدوم على الله؟ فصاح صيحة لم يُسمع صاح مثلَها قطّ، وسقط مغشيًّا عليه، فجلست العجوز تبكي عند رأسه وتقول: بأبي أنت وأمي، ما نستطيعُ أن نذكرَ بين يديك شيئًا من أمر ربك.


(١) انظر ترجمته في حلية الأولياء ٦/ ١٩٢، والمنتظم ٨/ ٩٧، وصفة الصفوة ٣/ ٣٦٧، وسير أعلام النبلاء ٨/ ١٧٤.