للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

اليوم، ووصل الفتى. يعني أن الربيعَ لقيطٌ لا يُعرف له أب، وفيه يقول الحارثُ بن الدَّيلمي: [من الطَّويل]

شهدتُ بإذن اللهِ أنَّ محمدًا … رسولٌ من الرَّحْمَن غيرُ مكذَّبِ

وأنَّ ولا كيسانَ للحارث الذي … وَلِي زمنًا حفرَ القبورِ بيثرب (١)

وكان الربيعُ فطنًا لبيبًا، دخل المنصورُ دارًا فرأى على حائطٍ مكتوبًا: [من الطَّويل]

وما ليَ لا أبكي بعينٍ قريحةٍ (٢) … وقد قُرِّبت للظاعنين حُمولُ

وتحتها مكتوب: إيه إيه إيه، فسأل أبو جعفرٍ خواصَّه فلم يفهموا معناه، فقال الرَّبيع: يَا أميرَ المُؤْمنين، لما كتب هذا البيتَ ولم يجد مَن يساعده على حاله بكى، والباكي يقول: إيه إيه، فعجب المنصورُ من فطنته، وأَعتقه واستوزره بعد ذلك.

وقال الرَّبيع: رأى المنصورُ على حائط قصرِه مكتوبًا: [من الطَّويل]

وما ليَ لا أبكي وأَندُب ناقتي … إذا صدر الرِّعيانُ نحو المناهلِ

وكنتُ إذا ما اشتدَّ شوقي رَحَلتُها … فسارت بمحزونٍ طويل البلابل

وتحته مكتوب: آه آه، فلم يدرِ ما هو، وفطنتُ فقلت: يَا أميرَ المُؤْمنين، قال هذا الشِّعرَ ثم تأوَّه فكتب تأوهَه وتنفُّسه، فقال لي: يَا غلام، ما أخفَّكَ على قلبي! قاتلك اللهُ قد أَعتقتك ووليتك مكانَ ياسر.

وكان شابٌّ من بني هاشمٍ يدخل على أبي جعفرٍ فيسلِّم من بعيدٍ وينصرف، فدخل يومًا، فأَدناه أبو جعفرٍ وقرَّبه وأَمره بالغداء معه، فقال: قد تغدَّيت، والربيعُ واقفٌ على رأس أبي جعفر، فلمَّا خرج الشابّ، لحقه الربيعُ فدفع في قفاه، وفعل الحجَّاب كذلك، فشكا الشابُّ إلى عمومته ذلك، فدخلوا على أبي جعفرٍ وأَخبروه فقال: إنَّ الربيعَ لم يُقدم على هذا جُزافًا، فإن شئتم أَمسكنا عنه، وإن شئتم سألناه، فقالوا: سَلهْ، فدعاه وقال له: لِمَ فعلتَ بهذا الفتى ما فعلت؟ فقال: يَا أميرَ المُؤْمنين، إن هذا الجاهلَ كان يأتي كلَّ يومٍ فيسلِّم من بعيدٍ وينصرف، فلمَّا كان بالأمس أَدناه أميرُ المُؤْمنين وقرَّبه


(١) تاريخ بغداد ٩/ ٤٠٤.
(٢) في المنتظم ٨/ ٣٣٢: حزينة.