للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال عبدُ الله بن مالك: كنت أتولَّى شرطةَ المهدي، وكان يأمرني بضرب ندماءِ الهادي وحبسِهم صيانةً له عنهم، وكان الهادي يُرسل إليَّ يسألني فيهم فلا أَلتفت إليه، فلما ولي الخلافةَ أَيقنتُ بالتَّلف، فأرسل إليَّ يومًا، فدخلتُ عليه وهو جالس على كرسيٍّ وبيده السَّيف، وبين يديه النِّطع، فسلَّمت عليه، فقال: لا سلَّم اللهُ عليك، أَتذكر يوم شفعتُ إليك في فلانٍ وفلان فلم تلتفتْ في أمري؟ قلت: نعم، أَيسرُّك أن تولِّيَني ما ولَّاني أبوك فيبعث إليَّ بعضُ ولدِك بأمرٍ يخالف أمرَك أن أتبعَه وأعصيَك؟ قال: لا، قلت: فكذا أنا لك، وكذا كنتُ لأبيك، فاستدناني، فقبَّلت يده ومضيتُ إلى منزلي، وأفكرت في أمره فقلت: شابٌّ حَدَث، وفي قلب ندمائه منِّي ما فيه، فكأنِّي بهم إذا غلب عليه الشرابُ قد أَزالوه عن رأيه وحملوه على قتلي، فبينا أنا جالسٌ وبين يديَّ بُنيَّة لي، وعندي كانون وخبز رُقاق وأنا أَشطره بكامَخ (١) وأُسخنه وأُطعمه الصَّبية، وإذا بحوافر الخيلِ وكثرةِ الغَوغاء، فقلت: وافاني اللهُ بما كنت أتخوَّفه، وإذا بالباب قد فُتح ودخل الخَدَم والشمعُ بين أيديهم، وإذا بالهادي راكبٌ على حمارٍ بينهم، فقمت وقبَّلت حافرَ الحمارِ ووقعتُ على يديه ورِجليه أقبِّلهما، فنزل وقعد وأَخذ يأكل من الكامَخ والخبز، ثم قال: يا عبدَ الله، فكَّرت في أمرك البارحةَ، وخطر لي ما خطر لك أني إذا أخذ مني الشرابُ وحولي أعداؤك يقولون ما أَوحشك، وها قد أتيتُ إلى منزلك وتحرَّمت بطعامك لترك وحشتِك، فقبَّلت يدَه، فالتفت إلى الخَدَم وقال: هاتمُ الزَّلَّةَ (٢) التي زللتُها لعبد الله، فأَحضروا أربعةَ أَبغُل موقورةٍ دراهم، وقال: هذه زلَّتك، فاستعنْ بها على أمرك، فدعوتُ له.

وقال للفضل بنِ الربيع: لا تحجبْ عني الناس؛ فإنَّ ذلك يُزيل عني التزكية، ولا تُلقِ إليَّ أمرًا إذا كشفته وجدته باطلًا؛ فإن ذلك يوهن الملكَ ويضرُّ بالرَّعية.

ومات ابنٌ لإبراهيمَ بن سالمِ بن قتيبة، وكان صاحبَ المرتبة عند الهادي، فجاء إليه يعزِّيه وهو راكبٌ على حمارٍ أَشهب، فنزل في رُواقه وقال: يا إبراهيم، سرَّك وهو عدوٌّ وفتنة، وساءَك وهو صلاةٌ ورحمة. فقال: يا أميرَ المؤمنين، ما بقي مني جزءٌ كان فيه


(١) الكامخ: الذي يؤتدم به، معرب. مختار الصحاح (كمخ).
(٢) الزلة: الصنيعة. القاموس المحيط (زلل).