للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكان صالح يقول: للبكاء دواعٍ؛ الفكرة في الذنوب، فإن أجابت القلوب، وإلَّا نقلتَها إلى الموقف وتلك الشدائدِ والأهوال، فإن أجابت إلى ذلك، وإلَّا فاعْرِض عليها التقلُّبَ في أطباق النيران، ثم صاح وغُشيَ عليه، وتصايحَ النَّاس من نواحي المجلس.

وعزَّى رجلًا على ابنه فقال: لئن كانت مصيبتك (١) لم تُحدِث لك موعظةً من نفسك، فمصيبتك في نفسك أعظمُ من مصيبتك في ابنك.

وأقدمه المهديُّ إلى بغداد، فدخلَ عليه وهو راكبٌ على حِماره إلى بساط المهدي، فقال لولديه موسى وهارون -وهما وليا العهد-: قوما إلى عمِّكُما فأنزلاه، فلمَّا انتهيَا إليه، أقبلَ صالح على نفسه وقال: ويلك يَا صالح، لقد خبتَ وخسرتَ إنْ كنت عملتَ لهذا اليوم.

وقال صالح: جاورتُ بمكَّة، فبينا أنا بالمسعى إذا برجلٍ قابضٍ على يد جارية حبشيَّة، وهو ينادي عليها: هل من زائدٍ على عشرة دنانير، مع البراءة من كل عيب؟ فنظرتُ إلى جاريةٍ مغمضة العينين، وعليها أنوار المعرفة، فقلت: وما عيبُها؟ قال: لا تأنسُ بأحدٍ، وتصومُ النهار، وتقوم الليل، وتبكي دائمًا، فقلتُ في نفسي: ما أحسنَ هذه العيوب، فاشتريتُها، وأتيتُ بها المنزل، فلمَّا استقرَّ بها الجلوس فتحت عينها وقالت: يَا سيدي الصغير، من أثبت؟ قلت: من العراق، قالت: مرحبًا وأهلًا معدن الزهاد والعُبَّاد، قلت: فمن تعرفين منهم؟ قالت: أعرفُ بشرًا الحافي ومعروفًا الكرخي ورابعة العدوية، وعدَّدت جماعةً، قلت لها: وكيف عرفتيهم؟ قالت: ها أولئك هم الأدلَّاء وأطبَّاء القلوب، فكيف لا أعرفهم؟ ثم قالت: فما الاسم؟ قلت: صالح، قالت: أبو بشر القارئ؟ قلت: نعم، قالت: ما كان أشوقني إلى لقائك، أسألك بالله أن تقرأَ عليّ، فأخذتُ في الاستعاذة، فما أتممتُها حتَّى غُشي عليها، ثم أفاقت، فقالت: اقرأ، فقرأتُ البسملَة، فغُشي عليها، فلمَّا أفاقت قالت: هذا على الصفة، فكيف على المعاينة؟ ثم قرأتُ: ﴿إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ﴾ الآيات [غافر: ٧١ - ٧٢] فقامت قائمة وصاحت: ولم هذا،


(١) في (خ) مصيبته. والمثبت من صفة الصفوة ٣/ ٣٥١.