للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فطرب هارونُ وقال: ما يسُرُّني بها حُمْرُ النَّعم، ولم يُعِدْ في معادلته للرشيد حكايةً ولا خبرًا، ولا وصل إلى مكانٍ إلَّا وأَخبره باسمه.

وصل كتابٌ من بعض الأطرافِ أن قاضيًا اختصمت إليه جاريتان في جرَّتين، استقتا ماءً من تُرعةٍ ثم جلستا تستريحان، فسقطت إحدى الجرَّتين على الأخرى، فانكسرتا، فادَّعت كلُّ واحدةٍ أنَّ جرَّة الأخرى انكسرت، فلم يكن عند القاضي علمٌ من ذلك، فقال للقيِّم: اذهب واشترِ لهما جرَّتين وأَرِحني منهما.

ثم قال القاضي لصاحبٍ له بعد أيَّام: ما يقول النَّاس؟ قال: يقولون: إنَّ القاضي لا يُحسن أن يحكمَ في جرَّتين حتَّى غَرِمهما، فقال: سبحانَ الله! أَلَا ترضَون مني أن أحكمَ فيما أُحسن وأَغرمَ فيما لا أحسن. فقال هارونُ لأبي يوسف: ما تقول فيه؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين، هذا رجلٌ عاقل، فزِدْه في رِزقه لأجل الغرامات، فزاده في كلِّ شهرٍ ألفَ درهم.

وكان يجلس إلى أبي يوسفَ رجلٌ فيطيل الصَّمت، فقال له: ألا تتكلَّم؟ فقال: متى يُفطر الصائم؟ قال أبو يوسُف: إذا غابت الشَّمس، قال: فإن لم تَغِب إلى نصف الليل، فضحك أبو يُوسُف وقال: أصبتَ في صمتك، وأخطأتُ أنا في استدعاءِ نُطْقِك، وأنشد: [من الطَّويل]

عجبتُ لإزراء العَييِّ بنفسه … وصمتِ الذي قد كان بالقول أَعلَما

وفي الصَّمت سترٌ للعييِّ وإنَّما … صحيفةُ لُبِّ المرء أنْ يتكلَّما (١)

وقال أبو يوسف: ثلاثةٌ لا يَسلَمون من ثلاثة: مَن طلب النجومَ لم يسلمْ من الزَّندقة، ومن طلب غرائبَ الحديثِ لم يسلم من الكذب، ومن طلب الكيمياءَ لم يسلم عن الفقر.

وكان يكتب كتابًا وعنده رجل، فتطلَّع فيه، فلمَّا فرغ منه أبو يوسفَ قال للرجل: فيه خطأ؟ قال: لا ولا حرف، قال: كفيتنا مَؤونةَ النظرِ فيه، ثم أنشد: [من السريع]


(١) تاريخ بغداد ١٦/ ٣٦٦، والبيتان للخطفى جد جرير كما في أخبار القضاة ٣/ ٢٦٤، والتذكرة الحمدونية ١/ ٣٦٥ و ٣/ ٣٤٨ - ٣٤٩، ومعجم الأدباء ١/ ٩٠، والتذكرة السعدية ص ٢٥١ - ٢٥٢، ونسبهما صاحب العقد الفريد ٢/ ٢٦٦ للحسن بن جعفر.