للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فبينا أنا أَنظر إلى النَّاسِ في زينتهم وكثرتِهم، إذ نظرتُ إلى فتًى حسن الوجه، شديدِ السُّمْرَة، فوق ثيابه ثوبٌ من صوف، مُشتَمِلٍ بشَمْلَة، في رجليه نعلان، وقد جلس منفردًا، فقلتُ في نفسي: هذا الفتى من الصُّوفية يريد أن يكون كَلًّا على الناس في طريقهم، والله لأَمضينَّ إليه ولأُوبِّخنَّه، فدنوتُ منه، فلمَّا رآني مُقبلًا قال: يا شقيق ﴿يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾ [البقرة: ٢٣٥] و ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ﴾ الآية [الحجرات: ١٢]، ثم تركني ومضى.

فقلتُ في نفسي: قد تكلَّم على ما في نفسي ونطق باسمي، وما هذا إلَّا عبدٌ صالح، لأَلحقنَّه ولأَسألنَّه أن يحالَّني، فأسرعتُ في طلبه، فلم أره، وغاب عن عيني، فلمَّا نزلنا واقِصة (١)، إذا به قائمٌ يصلِّي وأعضاؤه تضطرب ودموعُه تجري، فقلت: هذا صاحبي أَمضي إليه وأَستحلُّه، فصبرتُ حتَّى جلس، وأقبلتُ نحوه، فلمَّا رآني مقبلًا قال: يا شقيق، اُتل: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (٨٢)[طه: ٨٢] ثم تركني ومضى. فقلت: إنَّ هذا الفتى لَمن الأَبدال، فقد تكلَّم على سرِّي مرتين.

فلمَّا نزلنا زُبَالة، إذا بالفتى قائمٌ على البئر وبيده رَكْوَةٌ يريد أن يستقيَ ماء، فسقطت الرَّكوةُ من يده في البئر وأنا أَنظر إليه، فرأيتُه قد رَمَقَ إلى السَّماء وقال: [من الخفيف]

أنت رَبِّي إذا ظَمِئتُ من الما … ءِ وقوتي إذا أردتُ الطَّعاما (٢)

اللَّهمَّ سيِّديَ ما لي سوها، فلا تَعْدِمْنيها.

قال شقيق: فواللهِ لقد رأيتُ ماءَ البئرِ وقد ارتفع، فمدَّ يَده فأخذ الرَّكوة فملأها ماء، وتوضَّأ وصلَّى أربعَ ركعات، ثم مال إلى كَثيبٍ من الرَّمل، فجعل يقبض بيده ويطرحه في الرَّكوة ويحرِّكه ويشوب، فأَقبلت إليه وسلَّمت عليه (٣)، فردَّ السَّلام، فقلت: أَطعمني من فضل ما أنعم اللهُ به عليك، فقال: يا شقيق، لم تزل نعمةُ اللهِ علينا ظاهرةً وباطنة، فأَحسِن ظنَّك بربِّك.

ثم ناولني الرَّكوة، فشربتُ منها، فإذا سَويقٌ وسُكَّر، فواللهِ ما شربت قطُّ ألذ منه ولا


(١) منزل بطريق مكّة، وهي دون زبالة -وسيأتي ذكرها- بمرحلتين. معجم البلدان.
(٢) صفة الصفوة ٢/ ١٨٦، وقد ذكر القصة بتمامها.
(٣) في (خ): إليه.