للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كيف صار إلى هذه الحال؟ قال: وُلد لي قبل أن أَبتلَى بالخلافة، فنشأَ نشوءًا حسنًا، وتعلَّم القرآنَ والعلم، فلمَّا وليت الخلافة، تركني ولم ينَل من دنياي، فدفعتُ إلى أمِّه هذا الخاتمَ وهو ياقوتٌ يساوي مالًا كثيرًا، فقلت: تدفعينه إلى ابنك -وكان بارًّا بها- وتسألينه أن يكون معه، فلعله أن يحتاجَ إليه يومًا من الأيّام فينتفعَ به، وتوفِّيت أمُّه، فما عرفتُ له خبرًا إلَّا ما أخبرتني به أنت.

ثم قال: إذا كان الليلُ فأخرج معي إلى قبره، فلمَّا كان الليلُ خرجت معه وحده، حتَّى أَتينا قبرَه وهو يمشي، فجلس فبكى بكاءً شديدًا، فلمَّا طلع الفجرُ قمنا، فرجع ثم قال: تعاهدْتي في هذه الأيَّامِ حتَّى أزورَ قبرَه. فكنت أَتعاهده في اللَّيل، فيخرج يزوره ثم يرجع.

قال عبدُ الله بن الفَرَج: ولم أعلمْ أنَّه ابنُ الرشيد حتَّى أَخبرني الخليفةُ أنَّه ابنُه (١).

وقيل (٢): إنَّ عبد اللهِ بنَ الفَرَج نقله إلى منزله، وإنَّه لمَّا احتُضر، دفع إليه الخاتَمَ وقال: إذا متُّ ودفنتني فخذ هذا الخاتَمَ وادفعه إلى أَمير المؤمنين هارون، وقل له: يقول لك صاحبُ هذا الخاتم: احذَر أن تموتَ على سَكرتك؛ فإنَّك إن متَّ عليها ندمتَ.

فلمَّا دفنته وقفت لهارونَ وأخرجت الخاتَم، فلمَّا نظر إليه عرفه وقال: مِن أين لك هذا؟ فقلت: دفعه إليَّ رجل طيَّان، فقال: طيَّان طيَّان؟! فقرَّبني منه، وقلت: إنَّه أوصاني بوصيَّة وقال: إذا رفعتَ إليه الخاتم قل له: أحذر أن تموتَ على سكرتك هذه؛ فإنَّك إن متَّ عليه، ندمت. فلمَّا سمع لك، قام قائمًا على رجلَيه وضرب بنفسه على البساط، وجعل يتقلَّب ويقول: يا بنيّ، نصحتَ.

ثم جلس، وجاؤوا بماءٍ فمسحوا وجهَه، وقال: هيه. فحدَّثته الحديثَ وهو يبكي، فقال: هذا أوَّل مولودٍ ولد لي، بَصُرت بأمِّه فتزوَّجتُ بها سرًّا من أبي، فأَولدتها هذا المولود، وأَحدرتُها إلى البصرة، وأعطيتُها هذا الخاتمَ وأشياء، وقلت: اكتُمي نفسك، فلمَّا وليت الخلافةَ سألت عنهما، فذُكر لي أنَّهما ماتا، ولم أعلم أنَّه باق، فأين دفنتَه؟


(١) التوابين ١٨٧ - ١٩٠، وانظر الغرباء للآجري ٦٩، وصفة الصفوة ٢/ ٣١٣.
(٢) هذه الرّواية ذكرها ابن الجوزي في المنتظم ٩/ ٩٣.