للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بألفِ ألفِ درهمٍ (١) لحقٍّ قد لزمني، فبعث به إليه، ثم فكَّر ساعة، ثم قال لخادمٍ على رأسه: اُدخل إلى دنانيرَ فقل لها: هاتِ العِقدَ الذي وهبه لك أميرُ المؤمنين، فجاءَ به فقال: هذا عقدٌ ابتعتُه لأمير المؤمنين بمئة ألفِ دينارٍ وعشرين ألفِ دينار، فوهبه لدنانير، وقد قومناه عليك بألفَي ألفِ درهمٍ ليتم المال، فخلِّ عن صاحبنا.

قال صالح: فأخذتُ المال ورددتُ منصورًا معي، فلما صرنا إلى الباب تمثَّل منصور وقال: [من الوافر]

فما بُقْيا عليَّ تركتماني … ولكن خِفْتُما صَرَدَ النِّبالِ

قال صالح: فقلتُ في نفسي: ما أحدٌ أكرمَ من يحيى، ولا أحدٌ أردأَ من هذا النَّبَطي؛ إذ لم يشكرْ مَن أَحيا نفسَه، وصرتُ إلى الرشيد، فعرفته ما جرى إلَّا إِنشادَ البيت؛ خوفًا على منصورٍ أن يقتلَه، فقال الرشيد: قد علمتُ أنَّه لا يَسلم إلا بأهل هذا البيت، فاقبض المال وردَّ العِقد، فما كنت لأهبَ هبةً ثم أرتجعها.

قال صالح: وحملني غيظي من منصورٍ أنَّني عرَّفت يحيى ما أَنشد، فأَقبل يحيى يتحمَّل له العُذرَ ويقول: إنَّ الخائفَ لا يبقَى له لُب، وربَّما نطق بما لا يعتقد. فقلت: واللهِ ما أدري من أيِّ فعلَيك أَعجب، من فعلك معه أو من اعتذارِك عنه؟ لكني أعلم أنَّ الزمانَ لا يأتي بمثلك أبدًا.

وقال بعضُ عمومةِ الرشيدِ ليحيى قبل نكبتِه: إنَّ هارونَ قد أحبَّ جمعَ المالِ لولده، وقد كثروا عليك وعلى أولادك وأصحابِك عنده، فلو نظرتَ إلى ضِياع أصحابِك وأموالهِم فتقرَّبت بها إلى ولده أَمِنت غائلَتَه، فقال: هيهاتَ هيهات، والله لَأَن تزولَ نعمتي عني أحبُّ إليَّ من أن أُزيلَها عن قومٍ كنتُ سببًا في إِيصالها إليهم، وكلُّ كائنٍ مَقضيّ. وفيه يقول أبو قابوس الحِميَري: [من البسيط]

رأيتُ يحيى أتمَّ اللهُ نعمتَه … عليه يأتي الذي لم يأتِه أَحدُ

يَنسى الذي كان مِن معروفهِ أبدًا … إلى الرّجال ولا ينسى الذي يَعِدُ (٢)


(١) في (خ): بألف ألف ألف درهم. والمثبت من المنتظم ٩/ ١٩١، والتذكرة الحمدونية، والبداية والنهاية ١٣/ ٦٧٩.
(٢) تاريخ بغداد ١٦/ ١٩٧، ووفيات الأعيان ٦/ ٢٢٥.