للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وفقهت في الدِّين، والرأيُ أن تبعثَ إلى من بالحضرة من الفقهاء، فتدعوهم إلى الحقّ والعملِ به وإحياءِ السنَّة، وتقعدَ على اللبود، وترد المظالم، وتكرمَ القوَّاد وأبناءَ الملوك، وتحطَّ عن خراسانَ رُبعَ الخراج، فقال: أَفعل ذلك، ففعله، فحسنت حالُه، وسُرَّ به الناس، وقالوا ابنُ أُختنا وابن عمِّ نبيِّنا ﷺ، نفوسُنا دونه. ومعنى ابن أُختِنا أنَّ أمَّه مراجل كانت تركية من أهل خراسان.

وقيل: إنَّ رسلَ المأمون لمَّا عادوا من عسكر هارونَ آيسين، قال له الفضلُ بن سهل: اصبر واثبُت لتنال ما تحب، ثم خلا بالقواد الذين كانوا عند المأمون، مثل يحيى بنِ معاذ ومَن سمَّينا، وعرض عليهم البيعةَ للمأمون، وقال: قد غدر به محمد وأخذ ما كان أَوصى له به الرشيد، فبايعوا له، فأغلظوا له في الكلام، وقالوا: مَن يدخل بين الخليفةِ وأخيه؟ فدخل الفضلُ على المأمون وقال له: إذا كان هؤلاء كذا، فكيف لو رجع الفضلُ بمن معه! قال: فما الحيلة؟ قال: أَظهِر النُّسك، والزم المسجد، وافرش اللُّبود، وصلِّ الصلواتِ الخمس، ودُم على قراءة القرآنِ والصَّدقة على الفقراءِ والمساكين، وأَزِل المنكر، ومُر بالمعروف، وأحْيِ معالمَ الشريعة. ففعل، فمالت قلوبُ الناس إليه، وأشار عليه ألا يقطعَ مكاتباتِ محمَّد، فكتب إليه، وبعث بالهدايا النفيسة، من الطِّيب والرقيقِ والأَمتعة الجليلةِ وطُرَف السند والهند.

وكان هارونُ بفراسته يعلم ما يريد أن يجريَ بينهما، فكان يقول: [من الطويل]

محمد لا تُبغِضْ أخاك فإنَّه … يعود عليك البغيُ إن كنتَ باغيا

فلا تعْجَلَنْ فالدهرُ فيه كفايةٌ … إذا مال بالأقوام لم يُبْقِ باقيا (١)

ولم يجاهر المأمونُ أخاه، بل أَقام على طاعته والأمرُ بينهما مستور.

وأمَّا الأمين، فلمَّا أَفضت إليه الخلافة، تشاغل باللَّهو واللعب، وأمر ببناء مَيدانٍ حول قصرِ أبي جعفرٍ في المدينة للَّعب بالصَّوالجة، وأمر بعمل خمس حَرَّاقات (٢) في دجلة، واحدة على خِلقة الأسد، والثانيةُ على خلقة الفيل، والثالثة على خلقة العُقاب، والرابعةُ على خلقة الفرس، والخامسة على خلقة الحيَّة، وأمر الشعراءَ فمدحوها،


(١) الوافي بالوفيات ٥/ ١٣٨ - ١٣٩.
(٢) الحراقات: ضرب من السفن فيها مرامي نيران يرمى بها العدو في البحر. المعجم الوسيط (حرق).