للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ذِكر قصَّته مع جاره البقَّال:

وحكى القاضي التَّنوخي في كتاب "الفرج بعد الشدَّة" (١) عن الأصمعيّ قال: كنت أطلب العلمَ بالبصرة وإنما أنا مُقِلّ، وكان على باب زُقاقنا بقَّال، إذا خرجت بُكرةً يقول: إلى أين؟ أقول: إلى فلان المحدِّث، فإذا عُدتُ آخرَ النهار قال: من أين؟ فأقول: من عند فلانٍ اللغوي، فيقول: اِقبل وصيَّتي، فأنت شابّ، [فلا تضيِّع نفسك] (٢) واطلب معاشًا ينفعُك ويعود [عليك نفعُه] (٣) أعطني جميعَ ما عندك من الكتب لأطرَحه في دَنٍّ وأَصبَّ عليه من الماء عشرةَ أرطال (٤) [وأنبِّذَه] وأنظرَ ما يكون منه، واللهِ لو طلبتَ مني بجميع ما عندك جُرْزةَ بَقلٍ ما أعطيتك. قال: فكان يخاطبني بهذا دائمًا، فيضيِّق صدري، وبلغ بي حتَّى بعت آجُرَّ داري وسقوفَها، وأشرفت على الهلاك.

قال: فبينما أنا كذلك، إذ جاءني رسولُ محمدِ بن سليمانَ والي البصرة، فرأى قبيحَ حالي وسوءَ منظري، فعاد إلى الأمير وأخبره، فبعث إليَّ بألف دينارٍ وطِيب وتخت ثياب، وقال: قد أمرني الأميرُ أن أُدخلَك الحمَّام وأُلبسَك من هذه الثياب، فأدخلَني الحمام، وحملني إلى الأمير، فدخلت، فقرَّبني وأدناني، وقال لي: يَا عبدَ الملك، قد اخترتك لتأديب ابنِ أميرِ المُؤْمنين، فارحل إليه.

قال: فدعوت له، وجهَّزني من وقتي، فأخذتُ ما أحتاج إليه من كتبي، وتركت الباقي في بيت وطيَّنت بابَه، وأَقعدتُ في الدار عجوزًا من أهلي تحفظ البيت، وأصعدت إلى بغداد، فدخلت على الرشيد، فقرَّبني ورفعني، وقال: أعلم أنَّ ولدَ الرَّجل ثمرةُ قلبه ومُهجته، وأنا مسلِّم إليك ولدي محمدًا -يعني الأمين- بأمانة الله، لا تعلِّمه ما يُفسد عليه دِينَه، فلعلَّه يكون للمسلمين إمامًا. فقلت: سمعًا وطاعة.

ثم حوِّلت إلى دارٍ لتأديب محمَّد، ورُتِّبت الموائد، وأُجري عليَّ في كل شهر عشرة


(١) ٣/ ١٦١. وما بين حاصرتين من (ب).
(٢) ما بين حاصرتين من الفرج بعد الشدة.
(٣) ما بين حاصرتين من الفرج بعد الشدة.
(٤) في الفرج بعد الشدة: للعشرة أربعة. وما بين حاصرتين منه.