للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دعوتَني إلى الجنَّة عِيانًا فعلتُ ذلك، وكيف أكفر إحسانَه ومنَّته؟! فسكت الرجل، فقال له عبدُ الله: أما إنِّي قد بلغني خبرُك، وتاللهِ إنَّ أخوفَ ما أخاف عليك نفسُك، فارحل من هذا البلد.

فخرج الرجلُ وأتى المأمونَ فأخبره، فاستبشر وقال: ذاك غَرس يدي، وإِلفُ أدبي.

ولم يعلم ابنُ طاهرٍ بذلك إلَّا بعد موتِ المأمون.

وأقام ابنُ طاهرٍ ظاهرَ مصرَ ولم يدخلْها، فقيل له في ذلك، فقال: قبَّح اللهُ همَّة فرعون، أيفتخر بقريةٍ من قرى الدنيا ويقول: أليس لي ملكُ مصر! واللهِ لا دخلتُها أَنفةً منه. ثم فرَّق في أهلها أربعةَ آلاف ألفِ دينار.

وفيها كتب المأمونُ إلى ابن طاهرٍ بالقدوم عليه إلى بغداد، فقدم عليه ومعه المتغلِّبون على الشام؛ كابن أبي الصفر (١) وابنِ أبي الجمل وغيرِهما، وتلقَّاه الناس، فلم يتخلَّف عنه سوى المأمون.

قال إسحاقُ بن إبراهيمَ الموصلي: لما ولَّى المأمونُ عبدَ الله بن طاهرٍ الجزيرةَ والشامَ ومصر، خرج بنفسه معه يودِّعهُ، وقد حلَّ من قلبه محلًّا عظيمًا، وقال له: قد حكَّمتك في الأموال والرجالِ والأمصار، فقال. يا أميرَ المؤمنين، حسبي منها حُسنُ رأيك بي، واعلم أنَّ نصر اللهِ لمن أنت وليُّه، فقبَّل المأمونُ ما بين عينيه وقال: لا يقرب مكانَك من قلبي أخٌ أَثير، ولا ابنُ عمٍّ خطير، فنزل ابنُ طاهرٍ وقبَّل ركابَه ثم ودَّعه، وسار ابنُ طاهر إلى الجزيرة، فأباد ألخوارجَ الذين كانوا بها، وجمع أموالها، وفتح الشامَ ومصر، ثم عاد إلى بغداد، فلمَّا قرب منها قال المأمون: لا يبقى أحدٌ من الأقارب ولا من غيرهم إلّا ويخرج لاستقبال عبدِ الله وتقبيلِ ركابه، وكان في الجماعة المعتصم والعباس بنُ المأمون، وبقي ذلك في قلب المعتصم، ولما ولي الخلافةَ قال لي: يا إسحاق، لقد غرس المأمونُ في قلب ابنِ طاهر شجرًا إن لم يُجتثَّ من أصله وإلَّا طالت فروعُه في الخلافة، فقلت: فما يمنعك؟ فتنفَّس الصعداء وقال. هيهاتَ هيهات! نَيلُ السماءِ أهونُ من ذلك، إنَّ معه من الأولياءِ مَن قد شاهد فعلَ المأمون معه، فلم تَخرج تلك الهيبةُ من قلوبهم، ثم تمثَّل: [من الطويل]


(١) في (ب): كأبي الصفر، وفي (خ): كأبي الشقر. والمثبت من تاريخ الطبري ٨/ ٦١٨.