للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الفضل: فأخذتُ عَمرًا إلى داري، وأفردتُ له حُجرة، وأَقمتُ له ما يُصلحه، وأقام ثلاثةَ أيام، ثم أرسل إليَّ يسألني الاجتماعَ به، فأَذنتُ له، فدخل عليَّ وأخرج رقعةً قد أَثبت فيها ما يملكه، من مالٍ وجوهرٍ وعقار وأثاثٍ ودوابَّ وعبيدٍ وإمامٍ ونحو ذلك، ما مبلغُه عشرون ألفَ ألفِ درهم، وسألني أن أُوصلَ رقعتَه إلى المأمون، وأنه قد جعله في حِلٍّ وسَعَة من جميع ذلك، فقلت له: مهلًا، إنَّ أميرَ المؤمنين أجلُّ قَدْرًا أن يسلُبَك نعمتك كلَّها عن آخرها، فقال: هو كما وصفت، ولكنَّ الساعيَ لا ينام عنِّي ولا عنك، وقد بلغني أنَّه أمرك بالغِلظة عليَّ، وقد عاملتَنِي بضدِّ ذلك، وقد طابت نفسي أن أشتريَ خلاصي وخلاصَك بجميع مالي، فلم أَزل أرفقُ به حتَّى وافقته على شطر مالِه، وهو عشرةُ آلافِ ألفِ درهم، وأخذت خطَّه بها وصرتُ إلى المأمون، وإذا بمحمد بنِ يزدادَ قد سبقني إليه، فلما دخلتُ خرج محمد، فقال لي المأمون: يا فضل، ما هذه الجرأةُ عليَّ! أمرتُك بالتضييق على عَمرو بن بهبوبا فقابلتَ أمري بالضدِّ ووسَّعت عليه وأقمت له الأَنزال (١)!

فقلت: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ عَمرًا يطالب بمالٍ عظيم، ولم آمن أن أحبسَه في بعض الدواوين فيبذلَ مالًا يُرغَب في مثله فيخلُص، فجعلت حبسَه في داري، وأشرفتُ على طعامه وشرابِه لأَحرسَ نفسه؛ فإنَّ كثيرًا من الناس اختانوا الأموال وأَودعوها، فاحتيل عليهم بإِتلاف نفوسهم، فذهبت الأموالُ التي كانت لهم عند الناس، فتلفوا وفاز بها غيرُهم.

قال: فسكن غضبُه، ولم أُخرج الرُّقعة، قال: سلِّم عَمرًا إلى محمد بنِ يزداد، فسلَّمته إليه، فعذَّبه بأنواع العذاب، فلم يقرَّ بدرهم، فلمَّا رأى أصحابُه ذلك، جمعوا له ثلاثةَ آلافِ ألفِ درهمِ وبذلوها لمحمد بنِ يزداد، فصار إلى المأمون متبجِّحًا بها، وأخبره وأنا واقف، فرفع المأمونُ رأسَه وقال لي: يا فضل، ألم تعلمْ أنَّ غيرَك أقومُ بأمرنا منك وأَطوعُ لما نأمر! هذا محمدٌ قد أخذ خطَّ عَمروٍ بثلاثة آلافٍ ألفِ درهم، فقلت له -وما اجترأتُ عليه مثلَها قطّ-: أرجو أن أكونَ في حال استبطانك لي أبلغَ من إسراع غيري.


(١) في (خ) و (ف): الأموال. والمثبت من الفرج بعد الشدة.