للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قالت: واتَّفق أنَّ أَبا دُلَف اجتازَ بباب الحجرة، فدخل لينظرَ هل خفَّ ما أجد، فجلس يعاتبني ويرفقُ بي، فوجدني على حالي والرقعةُ بين يدي، فأخذَها ونظر فيها وقال: الآن يئستُ منك، وإن رددتُك على مولاك، فمن يردُّ علي المال؟ فقلت: الذي قبضَه منك، أو ما بقيَ منه وهو الأكثر، والله تعالى يخلفُ عليك ما ذهبَ منه، فأطرقَ ساعةً، ثم قال: بل يخلفُ الله الأصلَ، وقد رددتُكِ على مولاك، ووهبتُ لك ما أعطيتُك من الحلي والجواهر والمتاع، لحسن عهدك ورعايتك حقَّ الصحبة، فاستتري منِّي، فقد خرجتِ من ملكي، ثمَّ جهَّزني مع خادمٍ وامرأة وأعطاني كسوة وكراعًا وثيابًا، فقلت له: يَا مولاي، قد حضرَ بيتان، فقال: قُولي، فقلت: [من البسيط]

لم يخلق الله خلقًا صيغَ من كرمٍ … إلَّا أمير الندى المكنى أَبا دُلَفِ

رَثى لمحزونةٍ بالبين مُدْنفَةٍ … فردَّها طالبًا أجرًا على دنفِ

فدمعت عيناه، وأمر لي بخلعة ومئةِ دينار، وردَّني إلى مولاي.

قال اليزيديُّ: فسمرتُ ليلةً عند المأمون، وحدَّثتهُ الحديثَ، فاستحسنه وقال: ما قصَّرتِ الجاريةُ في حفظِ عهد مَن ربَّاها، وما قصَّر القاسمُ في فعله، ونحتاجُ إلى أن نقوِّيَ نيَّته (١) في مثل هذا الفعل الجميل الذي هو معدودٌ من مفاخرِ أيَّامِنا، فقل لأحمد بن أبي خالد (٢) يبعث إلينا مالًا، ونكتب إليه نعرفه انتهاءَ الحالِ إلينا، واستحسنا ما فعلَه (٣)، ليزدادَ حرصًا على انتهازِ الفرص في مثل هذه المكارم.

وقال الصوليُّ: تذاكرنَا يومًا عندَ المُبَرِّد في الحظوظ والأرزاق، وأنَّ الإنسان يأتيه رزقه من حيث لا يحتسب، قال: [هذا يقع كثيرًا، فمنه قول] (٤) ابن أبي فنن قال أبياتًا اتِّفاقيةً لمعنى أراده وهي: [من البسيط]

مالي ومالكِ قد كلَّفتِني شططًا … حَمْلَ السلاح وقولَ الدَّارعين قفِ

أمِنْ رجالِ المنايا خِلْتِني رجلًا … أُمسي وأُصبِح مشتاقًا إلى التَّلَفِ


(١) في المنتظم ١١/ ١٠٨: نقوي عزمه.
(٢) في المنتظم ١١/ ١٠٨: لأحمد بن أبي طاهر.
(٣) كذا، وفي المنتظم ١١/ ١٠٨: وإحمادنا لما اعتمد.
(٤) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد ١٤/ ٤١١، وتاريخ دمشق ٥٨/ ٣٢٦، والمنتظم ١١/ ١٠٥.