للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وصنَّفَ كتبًا كثيرةً من الزهديات والإشارات وعلوم المعاملات، قال: ولما صنَّفتُ (١) كتاب المعرفة أعجبتُ به، فبينا أنا أنظرُ فيه يومًا متعجِّبًا منه ومستحسِنًا له، إذ دقَّ الباب داق، فقلت: من؟ فقال: فقير، فأذنتُ له، فدخل رجلٌ عليه ثيابٌ [رثَّة]، فقال: يا أبا عبد الله، المعرفةُ حقُّ الحقِّ في الخلق، [أو حقُّ] (٢) الخلق على الحقِّ؟ [فقلت له: حقٌّ على الخلق للحقّ، فقال: هو أولى أن يكشفَها لمستحقِّها، فقلتُ: بل حقٌّ للخلق على الحق] (٣) فقال: هو أعدل [من] أن يظلمَهم (٤) ثم قام وخرج، فأخذتُ الكتابَ فحرقته.

وقال إسماعيل بن إسحاق السراج: كان الإمامُ أحمد بن حنبل ينكر على الحارث كلامَهُ في علوم الصوفية، فقال لي يومًا: بلغني أنَّ الحارثَ يتردَّدُ إلى بيتك، فلو أحضرتَه مجلسَك وأجلستني من حيث لا يراني لأسمعَ كلامه، فقلت: نعم، فأجلستُه في مكانٍ بحيث لا يراه الحارث، وهو يرى الحارث، فجاء الحارثُ وأصحابُه فجلسوا، والإمام أحمد في غرفة، وقُدِّم إليه الطعام، فشرعَ الحارثُ يتحدَّث مع أصحابه، فقال أحمد: هذا من السُّنَّة، فلما فرغوا غسلُوا أيديَهم، وحضرت العتمة فصلَّوا، ثمَّ أمر الحارث قارئًا يقرأ آياتٍ من القرآن، فبكى الحاضرون، وقعدوا بين يدي الحارث كأنَّ الطير على رؤوسهم، وهم سكوت، فسألَه بعضُهم عن مسألةٍ، فأجاب عنها من الكتاب والسنَّة، وجعل بعضُهم يبكي، وبعضُهم يصيح، وبعضهم يئنُّ ويتأوه.

قال إسماعيل: فصعدتُ الغرفةَ لأتعرَّف أخبارَ الإمام أحمد بن حنبل، وإذا به يبكي وقد كاد أن يُغْشَى عليه، فقلت: كيف رأيتَ؟ فقال: ما أعلمُ أنِّي رأيت مثل هؤلاء القوم، ولا سمعت في علوم الحقائق مثل هذا الرجل، ولا أنكر من [هذا شَيئًا] (٥)، ومع هذا فإنِّي لا أرى لك صحبتَهم (٦).


(١) في (خ) و (ف): صنف.
(٢) ما بين حاصرتين من مناقب الأبرار ١/ ١٦٩، والطبقات الكبرى للشعراني ص ٦٤. ومكانها في (ف) بياض.
(٣) ما بين حاصرتين من مناقب الأبرار ١/ ١٦٩، والطبقات الكبرى ص ٦٤.
(٤) بعدها في (خ) و (ف): لم يكشفها لمستحقيها!
(٥) في (خ) و (ف): بياض بمقدار كلمتين، واستدركتهما من طبقات الشافعية ٢/ ٢٧٩.
(٦) انظر تاريخ بغداد ٩/ ١٠٩ - ١١٠.