للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ذكر قصَّة المعتضد مع القَطَّان:

وهي من أحسن ما يُسَطَّر، حكاها القاضي المُحَسِّن عن أبيه بإسناده عن القاضي أبي عليٍّ] الحسن بن إسماعيل بن إسحاق (١) وكان ينادم المعتضد، قال: بينا المعتضدُ في مجلس سرور إذ دخل بدر فقال: يا مولاي، قد أحضرنا القطَّان الذي من بِرْكة زُلْزُل، فنهض المعتضد من مجلسه، ولبس قَباءً، وأخذ بيده حَرْبة، وقعد على كرسي، وبيننا وبينه ستارة نشاهده من ورائها، وأُدخل شيخٌ ضعيف، فصاح عليه بصوتٍ عالٍ ووجهٍ مُغْضَب: أنت القطَّان الذي قلتَ بالأمس ما قلت؟ فأُغمي عليه من الخوف، ثمَّ أفاق، فقال له: وَيلَك، تقول في سوقك: ليس للمسلمين مَن ينظر في أمورهم، فأين أنا؟ وما شغلي غير ذلك؟ فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، أنا رجل قطَّان أعيش من القُطْن الذي أعامل به النساء، ولا تمييز على مثلي فيما يَلْفِظ به، وإنما اجتاز بي رجلٌ ابتعتُ منه قطنًا، وكان ميزانه ناقصًا، فقلتُ ما قلت، وإنَّما عنيتُ به المُحْتَسِبَ علينا لا أميرَ المؤمنين، فقال له المعتضد: آالله إنَّك أردتَ المحتسب؟ قال: أي والله، قال: انصرف فلا بأس عليك.

ثمَّ أحضر المحتسب في الحال، ونال منه، [وأمره] بالكشف عن الموازين لئلَّا يبخس النَّاس، وتوعَّده وشدَّد عليه، [ثم عاد المعتضد إلى مجلسه وهو يضحك وقد غير لباسه،] وعاد إلى ما كان عليه.

قال الحسن بن إسماعيل: فقلت [له]: يا مولاي، قد عرفتَ فضولي، أفتأذن لي في القول؟ فقال: قل، فقلت: كنتَ على أكمل مَسَرَّة، فتركتَ ذلك، وشغلتَ الزَّمان بخطابِ رجلٍ من السُّوقة، قد كان يكفيه أن يؤدبه بعض الرَّجَّالة، ثمَّ لم يكْفِكَ ذلك حتّى غيَّرتَ لباسَك، ولبستَ سلاحَك، وناظرتَه بنفسك! فقال: يا حسن، أنت تعلم ما يجرُّه هذا القول إذا تداولتْه الألسنة، ووعتْه الأسماعُ، وحصل في القلوب، فربَّما أخرج العوامّ ذلك إلى المخالفة، وخلعِ الطَّاعة، وإثارة الفتنة، وإفساد النظام، وليس شيءٌ أبلغ في قطع هذه الأسباب وحسم موادها من إزالة دواعيها، وقد طارت روحُ هذا


(١) في (خ) وقال الحسن بن إسماعيل بن إسحاق، والمثبت من (ف) و (م ١)، والخبر في نشوار المحاضرة ١/ ٣٢٨ - ٣٢٦، وعنه المنتظم ١٢/ ٣١٥.