للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال جعفر بن وَرْقاء الشَّيباني: اجتزتُ بدار ابن الجَصَّاص بعد إطلاقه من المُصادرة، وإذا به في رَوْشَن داره يَعدو من أوله إلى آخره في يوم شديد الحرِّ كالمجنون، فصَعِدتُ إليه وقلتُ: ما الذي أصابك؟ فوقَع ساعةً كالمَغْشيِّ عليه، ثم أفاق فغسل وجهَه ورجليه وقال: أوَلا يحقُّ لي أن يذهب عقلي وقد أُخِذ مني كذا وكذا، وجعل يَعدُّ، فذكر شيئًا كثيرًا، فقلتُ له: يَا هذا، إنَّ نهايات الأموال غيرُ مُدرَكةٍ، وإنَّما يجبُ أن تعلمَ أنَّ النفوسَ لا عِوَضَ لها، فكذا العقولُ والأديانُ، فما سلم لك من ذلك فالفضلُ معك، وإنَّما يَقلَقُ هذا القلق مَن يَخاف الفقرَ والحاجةَ إلى النَّاس، أو يخاف ذهابَ الجاه، فاصبر حتَّى أُوافقك على أنَّه ليس ببغداد اليوم بعد الذي خرج عنك أيسرُ منك من أصحاب الطَّيالِس، فقال: هات.

قلتُ: أليس دارك هذه التي كانت قبل المصادرة [ولك فيها من الفُرُش والأثاث ما فيها؟ قال: بلى. قلت: وعَقارك] بالكَرْخ يُساوي خمسين أَلْف دينار؟ قال: نعم، قلت: وبستانك الفلاني وضيعتك الفلانية وقيمتها كذا وكذا؟ [ولك] بالبصرة عقارٌ وملك قيمتُه مئةُ أَلْف دينار (١)، وأحصيتُ له ما قيمتُه سبعُ مئة أَلْف دينار، وقلتُ: اصدُقْني عمَّا سلم لك من الجواهر والعبيد والأثاث، فقال: قيمتُه ثلاثُ مئة أَلْف دينار.

فقلتُ: ما ببغداد اليوم مَن له ما يساوي أَلْف أَلْف دينار غيرك، وجاهُك قائمٌ، وهم يظنُّون أنَّك قد بقي لك أضعافُ ما أُخذ منك، فلمَ تَغْتمُّ؟!

فسجد شُكرًا، وبكى وقال: قد غَلَب عليَّ الفكرُ حتَّى خفتُ على عقلي، فالله أنفذك إليَّ، ولو لم تجئني الساعة لزاد الفكر، وما عزاني أحدٌ أنفعَ لي من تعزيتك، وما أكلتُ منذ ثلاثٍ شيئًا، وأُحبُّ أن تقيمَ عندي، فأقمتُ عنده يومي.

وكان فيما أُخِذ لابن الجصاص خمسُ مئة سَفَط من مُرتفع ثياب مصر، ووجدوا في بستانه جِرارًا خُضْرًا فيها أموالٌ عظيمةٌ، وقَماقِمُ مُرَصَّعة مُرَصَّصَة والمال فيها.

وكان مع هذه الثروةِ فيه نوعُ بَلَهٍ وغَفْلة، ويُحكى عنه الحكاياتُ العجيبة، منها:

أنَّه قرأ يومًا في المصحف: "دِرْهم يأكلوا وَيتَمتعوا ويُلْهِهم الأمل" فجعل يقول:


(١) في (خ ف): قيمته مئة أَلْف أَلْف دينار، والمثبت من المنتظم ١٣/ ٢٦٩، ونشوار المحاضرة ١/ ٢٨.