للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فأعطاني يدَه فقبَّلتُها، ووَعَدني بكلِّ خير، فكان ذلك أولَ العهد به وآخرَه، ما دخلْنا عليه بعد ذلك، وكان كلُّ واحدٍ منَّا يسألُ الله تعالى أن يُنسيَه ذكرَه لما كان يبدو منه في حال سكره.

[قال:] وأباد جماعةً من أعيان الدولة في مدَّةٍ يسيرة، وكان قد صَنع حَرْبةً يحملها [في يده]، فلا يَطْرَحها حتى يقتل بها إنسانًا.

وقال محمد بن علي الخُراساني: أحضرني القاهرُ يومًا والحربةُ بين يديه وقال لي: قد علمتَ حالي إذا وضعتُ هذه الحربة بين يديَّ؛ لا أنتهي حتى أقتل بها إنسانًا، فقلت: الأمان، فقال: على الصِّدْق، قلتُ: نعم، فقال: أسألك عن خلفاء بني العباس في أخلاقهم وشِيَمهم من السَّفَاح إليّ، قلتُ: نعم، فقال: أسألُك عن خلفاء بني العباس، قلت:

أما السَّفاح فكان مُسارِعًا إلى سَفْك الدِّماء، سفك ألفَ دمٍ، واتَبعه عُمَّالُه في ذلك، واستنُّوا بسيرته، مثل: محمد بن الأشعث بالمغرب، وصالح بن علي بمصر، وخازم بن خُزَيمة، وحُمَيد بن قَحْطَبة وغيرهم، وكان مع ذلك بَحْرًا، سَمْحًا، وَصولًا بالمال، وسَلك مَن كان في عصره سيرتَه.

قال: فالمنصور؟ قلت: كان أولَ مَن أوقع الفُرْقَةَ بين وَلَد العباس وولد أبي طالب، وكانوا قبله أمرُهم واحد، وهو أولُ خليفةٍ قرَّب المُنَجِّمين وعَمِلَ بقولهم، وكان عنده نُوبَخْت المُنَجِّم، وعلي بن عيسى الأَسْطُرْلابي، وهو أولُ خليفةٍ تُرجِمَت له الكتبُ من اللغات اليونانية والأعجمية إلى العربية، ككتاب: "السند هند"، وكتاب أرسطاطاليس في المَنْطق، و"المِجِسْطي" و "إقليدس" وسائر الكتُب اليونانية، فنظر الناس فيها وتعلَّقوا بها، ولمَّا رأى ذلك محمد بن إسحاق المَدَني جمع المغازي والسير والمبتدأ، ولم تكن مجموعةً قبل ذلك، والمنصورُ أولُ مَن استعمل مواليه وقدَّمهم على العرب، [فسقطت قيادات العرب وزالت] رئاستها (١).


(١) ما بين معكوفين من مروج الذهب ٨/ ٢٩٢، وانظر السير ١٥/ ١٠٠، وتاريخ الإسلام ٧/ ٤٠٩.