للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم سأل عن باقي الخلفاء وأنا أجيبه بما فيهم، فقال لي: قد سمعتُ كلامك وكأنِّي مشاهدٌ القومَ، ثم قمتُ وقام على أَثَري والحَرْبة في يده، فاستسلمتُ للقتل، فعطف إلى دور الحُرَم.

وقال المَسعودي: أخذ القاهر من مؤنس وأصحابه أموالًا كثيرةً، فلمَّا خُلع وسُمِل طُولبَ بها فأنكر، فعُذِّب بانواع العذاب فلم يُقِرَّ بشيء، فأخذه الراضي، وقرَّبه وأدناه وقال له: قد ترى مُطالبة الجُنْد بالمال، وليس عندي شيءٌ، والذي عندك ليس بنافعٍ لك، فاعترِفْ به، فقال: أمَّا إذا فعلتَ هذا فالمالُ في البُستان.

وكان قد أنشأ بستانًا فيه أصناف الشجر والثمر، وحمل إليه فنون الثِّمار من البلاد، وعمل فيه البِرَك والماذِيانات (١)، وزخْرَفها، وبنى فيه قصرًا عظيمًا.

وكان الراضي مُغرَمًا بالبستان والقصر لا يجلس [إلا] فيه، فقال: وفي أيِّ مكانٍ المالُ منه؟ فقال: أنا رجلٌ مَكْفوف لا أهتدي إلى مكانٍ، فاحفُر البستانَ كلَّه وأساسات القصر والماذيانات فإنَّك تجده، فحفر الراضي البستان كلَّه، وقلع الشَّجر، وأخرب القصر، ونزل في الأساس إلى الماء، فلم يجد شيئًا، فقال له: وأين المال؟ فقال: وهل عندي مالٌ؟ وإنَّما كان حَسْرتي في جلوسك في البستان وتَنَعُّمِك، وهو كان غايةَ أمَلي، فأردتُ أن أُفجِعَك فيه.

فندم الراضي وأبعده عنه خوفًا منه على نفسه أن يُدنيَه منه فيتناول بعض أطرافه، ثم حبسه بدار السلطان، فأقام إلى سنة ثلاث وثلاثين وثلاث مئة، ثم أُخرج إلى دار ابن طاهر.

وكان تارةً يحبسه، وتارةً يُطلِقه، فوقف يومًا بجامع المنصور بين الصُّفوف وعليه مِنطَقةٌ بيضاء وقال: تصدَّقوا عليَّ، فأنا ممَّن قد عرفتم، وكان قصدُه أن يُشَنِّعَ على المستكفي، فقام إليه أبو عبد الله بن أبي موسى الهاشمي فأعطاه خمس مئة درهم، وقيل: ألف درهم، ثم مُنِعَ من الخروج، فعاش إلى سنة تسعٍ وثلاثين وثلاث مئة خامِلًا، ومات وله ثلاثٌ وخمسون سنة.


(١) بكسر الذال وفتحها، وهي أمهات السواقي، وقيل: هي السواقي الصغار كالجداول، وقيل: الأنهار الكبار، وليست بعربية. انظر مشارق الأنوار ١/ ٣٧٦، والنهاية ٤/ ٣١٣، والمعرب ٣٧٦.