للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الجن والشياطين خافوا، حتى وقفوا بين يدي سليمان، فنظر إليهم نظرًا حسنًا بوجهٍ طَلْق، ثم ناولوه الكتاب فقرأه وقال: أين الحُقُّ؟ فَأُتي به فحرَّكه، وجاء الوحي فأخبره بما فيه، وقال: فيه دُرَّة يتيمة غير مثقوبة، وجزعة مثقوبة معوجَّة الثقب. فقال الرَّسول: صدقت، وأمر الأرَضَة وقيل الذرَّة فدخلت في الجَزْعة وخرجت من الجانب الآخر، فقالت: اسأل الله أن يجعلَ رزقي الفاكهة. وثقب الدرة بالسامور، وختم على طَرَفَي الخيط بخاتمه، وأمر بإحضار الغِلْمَان والجواري، قال مقاتل: وأمر بإحضار آنية الماء وميَّز بينهم بالوضوء للصلاة فكان الغلام يبدأ من كفه إلى مرفقه، والجارية من مرفقها إلى كفها، وقال جدي في "التبصرة": وهذا قول سعيد بن جبير. قال: وقال قتادة: بدأ الغلمان بغسل ظاهر السواعد قبل بطونها، والجواري على العكس (١).

قلت: والعجب من حكاية مثل هذا، وقد اتفقوا على أن القوم كانوا يعبدون الشمس، وأخبرهم الله على لسان الهدهد بذلك، فمن أين كانوا يعرفون الوضوء؟ وإنما ميَّز بينهم بالوحي جبريل، جاءه فأخبره بهم كما أخبره بما في الحُقِّ.

ثم رد الهدية وقال للرسول: ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ [النمل: ٣٦] ومعناه أنتم أرباب مفاخرة ومكاثرة بالدنيا، وليس ذلك من حاجتي، لأن الله أكرمني بالنبوَّة والملك. ثم قال للمنذر بن عمرو: ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا﴾ أي: لا طاقة ﴿وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا﴾ أي: من المملكة ﴿أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [النمل: ٣٧] أي: محتقرون.

قال: فلما عادوا بالهدية إليها قالت: والله لقد علمتُ أنه ليس بمَلِك وأنه نَبيٌّ، وأخبرها المنذر بما شاهد، فكتبت إلى سليمان ﵇: إني قادمة عليك بملوكِ قومي لأنظر ما تدعو إليه، ثم أمرت بعرشها فَجُعِلَ في بيت، وأقفلتْ عليه، ثم في بيت آخر كذلك إلى سبعة بيوت، ووكلت به حرسًا يحفظونه، وشخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قَيْل، تحت يد كل قَيل ألوف عظيمة. وكان سليمان مهيبًا لا يُبْتَدأ بشيء حتى يكونَ هو الذي يَسألُ، فرأى يومًا رَهَجًا قريبًا منه، فسأل عنه فقالوا: بِلْقيس قد


(١) "التبصرة" ١/ ٣٠٦، والحكاية بطولها في عرائس المجالس ٣١٧ - ٣١٩.