للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وساقوني إلى أمير بين يديه جماعةٌ من السُّودان جماسين (١)، وكانوا يقطعون الطريق في ذلك المكان، فلمَّا رآني وبيدي الحَرْبة والسَّيف والتُّرْس وأنا أسودُ اللون قال لي: إيش أنت؟ قلتُ: عبدٌ من عبيد الله، فظنَّني منهم فقال: أتعرفونه؟ قالوا: لا والله ما رأيناه قبل اليوم، قال: بلى، هو رئيسكم وإنَّما تَفدونه بأنفسكم، لأُقَطِّعَنَّ أيديكم وأرجلكم.

ثم قدَّم واحدًا واحدًا فقطع يدَه ورجلَه، حتَّى أتى على آخرهم، ثم قال لي: مُدَّ يدك، فمددتُها فقطعها، ثم قال لي: مُدَّ رجلك، فرفعتُ طَرْفي إلى السماء وقلتُ: إلهي يدي جَنَت فقُطعت، ورجلي إيش عملت؟

وإذا بفارس قد وقف على الحَلْقة، فلما رآني رمى بنفسه إلى الأرض وقال: وَيْحَكم، إيش تريدون أن تفعلوا؟ تريدون أن تنطبق الخضراء على الغَبْراء؟! هذا رجل صالح [يُعرف بأبي الخير المُناجي- قال: وكنتُ أُعرف يومئذٍ بالمناجي] فرمى الأميرُ نفسه عن الفرس، وأخذ يدي المقطوعة من الأرض، وجعل يُقبِّلُها ويبكي، وتعلَّق بي وقال: اجعلني في حِلٍّ، سألتُك بالله، فقلتُ: قد جعلتُك في حلٍّ من أوَّل ما قطعتَها، وأنا أعرف ذنبي، وهذه يدٌ جنَت فقُطعت، ثم بكى وقال: أيُّ ذنبٍ أعظمُ من ذنبي، قطعت يدي، وانقطعت عنِّي القرصان.

[وذكر جدي في "الصَّفوة" (٢) وقال: إن أبا الخير كان قد عاهد الله أن لا يأكل من ثمار الجبال شيئًا إلا ما طرحتْه الريح، فخرج إلى جبال أنطاكية، فرأى شجرةَ كُمَّثْرى، فاشتهى منها شيئًا، فأمالتْها الريح، فأخذ منها واحدة فأكلها، وذكر قطع يده.

وذكر جَدّي (٣) أبا الخير وعاب عليه فقال: انظروا رحمكم الله إلى عَدَم العلم كيف صنع بهذا الرجل، وقد كان من أهل الخير، ولو كان عنده علمٌ لعلم أنَّ ما فَعَلهُ حرامٌ عليه.


(١) كذا في النسخ ومناقب الأبرار ٢/ ٨٦، ولم أجد لها معنى يناسب هذا السياق، ولعلها بشين معجمة، يعني محلوقي الرؤوس عقوبة، والله أعلم. وانظر مختصر تاريخ دمشق ٢٨/ ٢٦٤.
(٢) ٤/ ٢٨٢.
(٣) في تلبيس إبليس ٣٠٣، وساق قصته.