للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وسيف الدولة مَشهور بسيادتهم، كان غُرَّةَ الزمان، وعماد الإِسلام والإيمان، وبه سِدادُ الثُّغور، وقِوام الأمور، ووقعاتُه في طوائف العرب مشهورة، وصَرْعاته لهم مأثورة، ولم يزل يَفُلُّ أنيابها، ويُذِلُّ صِعابَها، وغزواته تُدرِك من طاغية الروم بالثار، ويُحسِن في الإِسلام الآثار، وحضرتُه مَقْصِدُ الوفود، ومَطْلَع السُّعود والجود، ومَحَطُّ الرِّحال، وقِبلةُ الآمال، ومواسم [الأدباء، ومراسم] العلماء والفضلاء والشعراء.

قال: ويقال: إنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك ما اجتمع ببابه من أهل العلم وشيوخ العصر.

وكان شاعرًا، أديبًا، فصيحًا، شديدَ الاهتزاز عند المدائح (١)، أقام المتنبي عنده أربع سنين، فوَصَله بنيِّفٍ وثلاثين ألف دينار.

وقال عبد الله بن أحمد بن معروف: كنت بحلب عند الحسن بن محمَّد الصّلحي وأبي القاسم ابن المغربي كاتبَي سيف الدولة، فدخل شيخ ضرير، فسلَّم عليهما وقال: لي إلى الأمير سيف الدولة حاجةٌ، ومعي رُقعةٌ إليه، وأخرجها وإذا فيها طول، فقالا: هذه رقعة طويلة، وربّما لا يَنبسط الأمير لقراءتها فاختصِرْها، فقال: ما أريد [إلا] أن تعرضاها عليه، فدفعاه، فقام يَجُرُّ رجلَيه وهو مُنكسِرُ القلب، فتداخَلَتْني له رِقَّةٌ، ودخلتُ على سيف الدولة فجلستُ، وإذا بالحاجب قد عرض عليه رقعة وفيها: فلان ابن فلان المَوصليّ الضَّرير -وما كان يدخل عليه أحد حتى يُكتَب اسمُه ويعرَض عليه- فقال: وهذا يعيش؟! إئذن له، فما أظنُّه مع ما كنتُ أعرفُ من زُهده في الملوك، وتركه الدنيا، قَصَدني إلا من شِدَّةٍ شديدة.

فدخل الشيخ بعينه فسلَّم، فاستَدْناه ورحَّب به وقال: إليَّ إلى، أما سمعتَ بنا في الدنيا، أما آن أن تزورَنا مع مالك عندنا من الخِدمة والحُرْمَة والسبب الأكيد؟!

فقام الضرير قائمًا، وسلَّم إليه الرُّقعةَ بعينها، فقرأها كلَّها فقال: أين يونس بن بابا؟ -وكان خادمه (٢) -فحضر فأَسَرَّ له بشيء، وأسرَّ إلى جماعة بشيء، فأحضر بعضُهم دنانير، وبعضهم كسوة، وبعضهم فُرُشًا وطيبًا وفرسًا وبغلًا؛ يساوي البغل ثلاثة آلاف


(١) يتيمة الدهر ١/ ٣٧، وعنه تاريخ دمشق ٥١/ ٢٠.
(٢) في الفرج بعد الشدة ٣/ ٣٩: خازنه.