للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومعلوم أن أمير المؤمنين المطيع لله -تَولَّاه الله بالحراسة حيًّا، وبالمغفرة مَيتًا- بَرزَ عن داره هاربًا خائفًا من الخَطَر الذي أُكرِه عليه، وإن هَرَبَه كان إلى جِهتي، وسُكونَه إلى جَنْبَتي، وأنه رُدَّ العُصاة، وحُصِرَ حَصْر العُتاة، وأقر في جيشه، وأُخيف على نفسه، ولم تُرْعَ له ذِمَّة ولا حُرْمَة، ولا وُقِّرَت له شَيْبة ولا كَبْرَة، فأصبح فريدًا وَحيدًا، مَسلوبًا مَغلوبًا، قد أُبعد عنه أنصارُ الدولة، وأحاط به غُواةُ الفتنة، لا يَملك لنفسه ضَرًّا ولا نَفْعًا، ولا يستطيع نَصْرًا ولا دَفْعًا، ولا يَصحُّ من مثله اختيار، ولا يثبت عليه بالإقرار، ولا تَقَدَّمت منه مُشاورةٌ لأحد، ولا مُكاتَبةٌ إلى طَرَف، بل أقدم عليه الطَّائفة النَّاشِزة التي لا تَتِمُّ بهم بَيعة، ولا أُقيمت لهم خُطبة (١)، ولا رضيت الأمة، ولا اجتمعت الكافَّة.

والأمير يعلم أنه لو أراد واحد من هؤلاء المماليك أن يَعقِدَ لنفسه عَقْدَ نكاح ما تمَّ إلا بأمري، ولا خرج عن حُكمي، ومَن فعل ذلك منهم بغير أمري فهو مَلْعون على لسان رسول الله ، قال: "من تولَّى غيرَ مَواليه فعليه لعنةُ الله" الحديث (٢). وجميعهم بين مُسْتَرَقّ مُلكُه عائدٌ عليّ، وبين مُعْتَق وَلاؤه مَنسوبٌ إليّ، ولا يَنعقد بمثلهم أمرٌ، ولا يَنْفُذُ بقولهم حُكم، ولا يكون الأمرُ الذي انفرد به حُجَّةً على أعيان المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأسافلها وأعاليها، وأقاصيها وأدانيها، وكيف يكون الأمرُ تامًّا بشِرْذِمةٍ من العبيد، مَحصورة العَدَد، مُنقطعة المَدَد، لم يخرج سُلطانهم ببغداد عن طَرَفها، ووراءها مني طالبٌ يَطلبها وينحوها، وقاصدٌ يَبتغيها ويَقفوها.

وقد علم الأميرُ أن من شرط وُلاةِ العهود تعريفَ اللُّقَطة، وردَّ الضَّالَّة، وحَبْسَ الأُبَّاق من أَرِقَّاء المسلمين والمعاهَدين عليهم، وإعادتهم إلى الانقياد إليهم، فما الحُجَّةُ عليَّ في الاشتمال على مَن هو في هؤلاء الغلمان من عَبيدي الذين لم يَخرجوا عن مِلْكي ببيعٍ ولا إعتاق، ولا إذنٍ ولا انطلاق، مع الدَّعوى أنه للبَرِيَّةِ سائس، وعليها رائس، وقد سمع اللهَ تعالى يقول: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٤] … وذكر فُصولًا أُخَر. وهذا الكتاب هو الذي أوجَبَ نكبةَ الصَّابئ.


(١) في هامش (ب): ولا أقيمت لهم حقيقة. وعليها إشارة الصحة.
(٢) قطعة من حديث علي ، أخرجه أحمد (٦١٥)، والبخاري (٣١٧٢)، ومسلم (١٣٧٠).