للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وحكى عنه الحافظ ابن عساكر، وفي "المناقب"] قال: استقبلني في حال حداثتي فقير، فرأى فيَّ أثرَ الجوع والضرّ، فأدخلني بيته، وقدَّم إليَّ طَبيخًا فيه كُشك ولحم مُتغيِّر، فأكلتُ الثريدَ وتجنَّبتُ اللحم، فأخذ قطعة من اللحم فلقَّمني إياها، فشقَّ علي وخَجِلتُ.

ثم خرجتُ إلى مكة ومعي جماعة، فأقمنا أيامًا لم نأكل شيئًا، فجئنا إلى حيٍّ من أحياء العرب، فاشتَرَوْا منهم كلبًا بدينار، فذبحوه وشَوَوه، وأكلوا للضرورة، وناولوني قطعةً من لحمه، فلما أردتُ أكلَها ذكرتُ خَجَل الفقير مني، وأنها كانت عقوبة، فلما رجَعْنا أتيتُ الفقيرَ واعتذرْتُ إليه.

وقال: دخلتُ (١) الباديةَ على نيَّةِ الحج، وكنتُ قد قَدِمتُ بغداد ولم أدخل على الجُنيد، وفي رأسي نَخوةُ الصوفية، وقد أقمتُ أربعين يومًا لم آكُلِ الخبزَ، ولم أشرب الماء، فعَطِشتُ، فلما وصلنا إلى زُبالة (٢) -وكنت على طهارةٍ من بغداد- وإذا بظَبْيٍ على رأس البئر، وقد ارتفع الماء إلى رأسها وهو يشرب، فدنوتُ من البئر لأشرب فولَّى الظبي، ونزل الماء إلى أسفل البئر، فقلت: يَا سيدي مالي محلُّ هذا الظبي؟! فسمعتُ هاتفًا من ورائي يقول: هذا الظَّبيُ جاءنا بغير حَبلٍ ولا رَكْوَة، وأنت جئتنا بحبلٍ ورَكوة، ولكن التفت، فالتفتُّ وإذا بالماء في رأس البئر، فشرِبتُ، فلما قضيتُ الحج وعُدُت إلى بغداد دخلتُ على الجنيد، فلما رآني قال: أما إنك لو صَبَرْتَ ساعةً لنبع الماء من تحت قدميك.

[وحكى عنه في "المناقب" أَيضًا] قال: خرجتُ من مصر أُريد الرَّمْلَة للقاء أبي علي الرُّوذباري، فلَقيني عيسى بن يوسف المصري الزَّاهد، فقال لي: يابن خَفيف، بصُور شابٌّ وكَهْل قد وقفا في مقام المراقبة، فلو نظرتَ إليهما لعلك أن تستفيد منهما، فدخلتُ صور وأنا جائع عطشان وفي وَسَطي خِرْقَة، وليس على كتفي شيء، فأتيتُ المسجد، فإذا بشابٍّ وكَهْل قد استقبلا القبلة، وهما جالسان لا يتكلَّمان، فسلَّمتُ عليهما فلم يَرُدَّا، فقلت: ناشَدْتُكُما الله إلَّا رَدَدْتُما عليَّ السَّلام، فرفع الشابُّ رأسَه من مُرَقعَته وقال: يَا ابن خفيف، ما أقلَّ شُغْلَك بنفسك حتَّى تَلقانا!


(١) في (ف م م ١): وحكى عنه أَيضًا أنَّه قال: دخلت.
(٢) منزل معروف بطريق مكة من الكوفة.