للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الحاكمَ على ما جرى على جعفر، فانزعج وكفَّ عن القتل، وانقطع عن الرُّكوب الذي كان يواصله، وأرسل إلى قتال أبي رِكوة قائدًا من الأتراك يقال له: يَنَّال الطويل، وجهَّزه في خمسة آلاف فارس، وأطلق لهم العطايا، وبعث لهم مئة ألف دينار لِما يحدث، وجعل بينهم وبين القاهرة خيلَ البريد، تحمل الأخبار يومًا بيوم، وكان معظمُ جيش ينَّال كُتامة (١)، وكانت مستوحشةً من ينَّال؛ لأنه قتل رؤساء كُتامة بأمر الحاكم، وجاء ينَّال فنزل الإسكندرية، وبلغ أبا رِكْوة، فقال له الحَرْدَب: ما ترى في استقبالهم؟ فقال له: اصبِرْ، فهم غنيمتُكم. وتقدم ينَّال إلى مكان يُعرف بذات الحُمام، فأقام أيامًا لعلَّه يتفكَّك مَن مع أبي رِكْوة ويكتفي أمر الحرب، وأبو ركوة ثابتُ الجأش غيرُ مفكِّرٍ فيه، وقد استمال أهل برْقة وأصحابَ جعفر وأحسنَ إليهم، وشرع لهم في المخرقة، ورأى ينَّال بَياتَ أبي رِكْوة، فسار من ذات الحُمام إلى بَرْقة وبينهما مفاوزُ شاقةٌ قليلةُ الماء، ولا مادةَ فيها، ويحتاج السالك فيها إلى حمل الماء والعلف، وعرف أبو رِكْوة عَزْمَ ينَّال على دخول المفازة، فخرج من بَرْقة، وقدَّم بين يديه الحَرْدَب في ألف فارس، فطمَّ الآبارَ، وغوَّر المياه، وسار ينَّال -على عطش وضعف- وقد نشِبَ (٢)، والتقوا فقتل ينَّال جماعةً من الرجَّالة وزناتة، وأبو رِكْوة في بني قُرَّة واقفٌ في الميمنة، والماضي في فرسان زناتة في القلب، واستأمَنَ إلى أبي رِكْوة قطعةٌ من كُتامة؛ غيظًا من ينَّال، ولِما عندهم من طلب الثأر منه، ثمَّ حمل أبو رِكْوة، فانهزم عسكر ينَّال، وأخذَ ينَّال أسيرًا، وأحضره بين يديه، وأمره بلعنة الحاكم، فبصق في وجه أبي رِكْوة وسبَّه، فَقُطِّع إرْبًا إرْبًا، واستحيا أبو رِكْوة من العسكر مِنْ أسره، وعاد إلى بَرْقة وقد امتلأت يدُه ويدُ بني قُرَّة وزِناتة من الأموال والغنائم، وأخذ المئةَ ألفِ دينار التي كانت مع ينَّال، فقويَتْ نفوسُ أصحابه وعظَّموه، وحصل بيده من الأموال والسلاح والخيل ما يتجاوز الوصف، وبلغ الحاكمَ، فقامت عليه القيامة، وسُرَّ جند مصر والرعيةُ بما جرى، واستراحوا مما كانوا فيه معه، وكتب إليه أصحاب الأخبار بما عليه الناس، فازداد


(١) كُتامة: قبيلة من البربر، نزلت ناحية من بلاد المغرب. الأنساب ١٠/ ٣٥١.
(٢) نشِب: ثار. المعجم الوسيط (نشب).