للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قلقُه، وضعُفَتْ نفسُه، وجلس للعزاء في ينَّال استمالةً للأتراك، وفتح بابَه، وسهَّل حجابَه، وكتب كتابًا يعتذر فيه عن قتل مَنْ قتلَه، وأنهم أربابُ جناياتٍ خفِيَتْ على الجمهور، وقد عفا الآن عن كلِّ مُجرمٍ، وصفحَ عن كلِّ مُذنبٍ، ودعا وجوهَ الناس إلى قصره، وقرأ عليهم الكتاب، فقبَّلوا الأرض، ودعَوا له، وقُرئ الكتاب في الجوامع، فسكنتِ النفوسُ إلى ما وعدَهم به، وكان بالصعيد الأعلى قاضٍ يُعرف بابن الزُّبير، ذو حالٍ عظيمة، بحيث تُضرب الطبولُ على بابه في أوقات الصلوات، وله خمسة آلاف عبدٍ أسود، ومن عادته أن يضمن الصعيد من السلطان، فكاتبه قائدُ القوَّاد الحسين بن جوهر - وكان وزيرَ الحاكم - بأن يُراسل أبا رِكْوة ويستميلَه إليه ويُخرِجَه من مكانه - وقيل: إن وزير الحاكم استدعى من أبي رِكْوة الأمانات فكتبها له - وكلُّ هذا يجري سرًّا من الحاكم، ولمَّا علِمَ أبو رِكْوة أنَّ ابنَ الزُّبير قد صارَ معه، وابنُ جوهر خرج من بَرْقة يريد الصعيد، وعَلِمَ الحاكمُ، فضاق ذَرْعُه، وجمع خواصَّه، وقال لهم: قد علِمْتُم حال هذا العدوِّ، فما عندكم؟ فقام الحسين بن جوهر، فقال: عندي من نعمةِ مولانا ونعمةِ آبائه ألفُ ألفِ دينار، وأسأل قبولَها والاستعانة بها. وقال آخر: كذا. وقال آخر: كذا. وبذل كلُّ إنسان ما قدر عليه، فجزاهم خيرًا. وقال: ما أردتُ هذا، ولكن أردتُ الرأي والمشورة. فقال له أبو الحسن علي بن الحسين المغربي - وكان كالضيف عنده -: يا مولانا، قد اجتمع إلى هذا العدوِّ فتَّاكُ العرب وطوائفُ قصْدُهم النَّهبُ - وكانوا صعاليكَ وقد استغنوا - وقد جبُنَ هذا العسكر عنهم، وخصوصًا من وقعة ينَّال، فإن رأى أميرُ المؤمنين أن يُنفِذَ إلى الشام فيستدعيَ من غلمان الحمْدانية وطيِّئ واليمن والقبائل ممن داوس ومارس، فيندُبَهم إلى قتالِه، رجوتُ الظَّفَر.

فكتب إلى الشام، فاستدعى من الحَمْدانية والقبائل والدَّيلم ستة آلاف، وفتحَ الخزائنَ، وأنفقَ الأموال، فاشتملت الجرائد (١) على ستة عشر ألفًا ما بين فارس وراجل، وخلع عليهم الخِلَع النفيسة، وأعطاهم الخيولَ المُسوَّمة، والأموال الكثيرة، وأمرهم بالعبور إلى الجِيزة، فعبروا، وركب الحاكم بنفسه إلى الجِيزة، ووقف عليهم


(١) الجرائد: جمع جريدة: وهي الجماعة من الخيل. اللسان (جرد).