للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فقلت لغلامه: تقدَّمْ حتَّى ألحقَكَ. ففعَلَ، وجئتُ إلى قبر معروف، فدعوتُ الله أن يكفيني شرَّه، وجئتُ إلى قبر ابن يسار، فرآني شيخٌ وأنا أدعو، فقال: أيها القاضي على مَنْ تدعو؟ فقلت: على ابنِ حاجبِ النعمان، أمرني بكذا وكذا. فأمسكَ عني، وجئتُ إلى ابنِ حاجب النعمان، فجعل يخاطبني خطابًا غليظًا في فكِّ الحَجْر عن اليتيم، وأعتذِرُ فلا يقبَلُ عُذري، وإذا قد وافاه خادمٌ بتوقيع، ففتحه وقرأه، فتغيَّر لونُه ثم عدل من الغِلْظة إلى الاعتذار، وقال: كتبتَ إلى الخليفة قصةً؟ قلتُ: لا واللهِ، وعلمتُ أنَّ الشيخ الَّذي التقاني هو القادر، وأنه كتب إليه ينهاه عني.

وكان القادرُ يوصل الرسوم في كل سنةٍ إلى أربابها من غير أن يكتبوا له قصصًا، فإن مات أحدٌ منهم أُعيد ما يخصُّه إلى ورثته، وبعث يومًا إلى ابن القزويني الزاهد يسأله أن يُنفِذَ إليه من طعامه الَّذي يأكله، فأنفذ إليه طبقًا من خِلاف (١)، فيه من غضائرَ (٢) لِطاف، بانذنجان، وباقِلَّاء، ودبس، وعليها رغيفان من خبز البيت، وشدَّ ذلك في مئزر قطن، وبعث به إليه، فتناول الخليفة من كلِّ لون، وفرَّق الباقي، وبعث إلى ابن القزويني بمئتي دينار، فلمَّا كان بعد أيام أنفذ يلتمس منه شيئًا من إفطاره، فأنفذ طبقًا جديدًا فيه زباديُّ جِياد، فراريجُ وقطعةُ فالوذٍ وخبزُ سعيد ودجاجةٌ مشوية، وقد غطَّى ذلك بفوطة جديدة، فلمَّا وصل ذلك إلى الخليفة تعجَّب وقال: قد كلَّفْنا الرجُلَ ما لم تَجْرِ له به عادة، وأرسل إليه: لِمَ تكلَّفْتَ؟ فقال: ما تكلَّفتُ، وإنما اعتمدتُ ما أمرني الله به، إذا وسَّعَ عليَّ وسَّعتُ على نفسي، وإذا ضيَّقَ عليَّ ضيَّقتُ، وقد كان من إنعام أمير المؤمنين ما عُدْتُ به على نفسي وجيراني. فعجبَ القادرُ من دينه وعقله، ولم يزَلْ يواصله بالعطاء.

وكان القادر يقسم الطعام الَّذي لإفطاره ثلاثةَ أقسام؛ فقِسمٌ يتركه بين يديه، وقِسمٌ يبعثه إلى جامع الرُّصافة، وقِسمٌ إلى جامع المنصور، فاتَّفق أنَّ الفرَّاش حمل إلى جامع المنصور جُؤْنةً فيها طعام، ففرَّقه على المنقطعين، فأخذوا، إلَّا شابٌّ [فإنه] (٣) لم يأخُذْ، فلمَّا صلَّى المغربَ خرج الشابُّ من الجامع، فتبِعَه الفرَّاشُ، فوقف على باب


(١) الخِلاف: نبات الصفصاف. المعجم الوسيط (خلف).
(٢) الغضائر: أواني فخارية أو خزفية مصنوعة من الصلصال. ينظر تكملة المعاجم ٧/ ٤١٩.
(٣) هذه الزيادة من (ف).