للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البساسيريُّ بابن المسلمة إلى حريم ابن طاهر، واعتقله فيه، وثقَّله بالحديد، وضربه بيده ضربًا مُبرِّحًا حتى انتفخت قدماه، فَفُكَّ قيدُه حتى سكنت، ثم أُعيد القيد، واعتُقل أيضًا القاضي ومَنْ سَمَّينا، وواصل العقوبة عليهم، وأقام بالحريم، وجعله داره، وشدَّ الفِيلَة على بابه، وطلب الخليفةَ من قريش فلم يفعل، فاتَّفقا على أن أيديهما متساوية في حفظه، وأن لا يكون في يد أحدهما إلى أن يتقرَّر لهما عزمٌ في بابه، وأن يبعثا به إلى مهارش صاحب الحديثة، وأن يكون معتقلًا عنده، وعرف الخليفة ذلك، فخاف أن تكون مكيدة، فراسل قريشًا في المجيء إليه، فامتنع، فقام الخليفة ومشى إلى خيمة قريش، ودخل عليه، وعلق بذيله، وقال: قد عرفتَ ما استقرَّ من إبعادي عنك، وإخراجي من يدك (١)، وما سلمتُ نفسي إليك، إلَّا لمَّا أعطيتني ذمامك الذي يلزمك الوفاء به، وقد دخلتُ عليك بذمام آخر، فاللهَ اللهَ في نفسي، فإنك إن أسلمتني أهلكتني وضيَّعتني، وما ذاك معروف في العرب. فقال له: ما ينالُكَ سوءٌ، ولا يلحقُكَ ضيمٌ، غير أن هذه الخيمة ليست لك بدار مقام، وأبو الحارث لا يُؤثِر مقامك معه في هذا البلد، وقد جرى ما جرى في أمرك، وأنا أنقلك إلى الحديثة وأُسلِّمك إلى ابن عمي مهارش، وفيه دين وتألُّه، فلا تخَفْ، واسكُنْ إلى مراعاتي لك، وعُدْ إلى مكانك. فلمَّا يئس منه قام عنه وهو يقول: لله أمرٌ هو بالِغُه. واسترجع، وعبر قريش ليلة الأربعاء تاسع ذي الحجة إلى الجانب الغربي، فضرب خيمةً بقرب جامع المنصور، وحُمِلَ الخليفةُ إلى المشهد بمقابر قريش، وقيل له: تبات الليلة فيه. فامتنع وقال: هؤلاء العلويُّون الذين به أعدائي ويشنؤوني، وربما جرى منهم قولٌ قبيح. فلم يلتفت إليه، وأُلزم الدخول، وبات في بعض البيوت، وكان القصد في إدخاله المشهد لما جرى على المشهد من الحريق والهوان، وفِعْلُ الزُّهيري وابن اليدن إنما كان عن أمره وإيثاره، فأرادوا الموافقة له على ذلك، وأنه عوقب بدخوله إليه، فأصبح أصحاب البساسيري وأصحاب قريش فتسلموه وأقعدوه في هودج على جمل وحده، وساروا به إلى الحديثة، فلمَّا بلغ الأنبار شكا وصولَ البرد إلى جسمه، وطلب شيئًا يلبسه، فلم يجد، وعرف شيخ من مشايخ الأنبار -يقال له: ابن مهدويه- ذلك، فأنفذ إليه جُبَّةَ بُرْدٍ


(١) في (خ): وإخراجي عنك، والمثبت من (ف).