للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وفي ربيع الآخر ورد الخبرُ بمسير أرسلان خاتون زوجة الخليفة إلى بغداد ومعها تواقيع بجميع ما التمسه القائم من الإقطاعات وغيرها، وأنَّ ألب أرسلان توجَّه إلى أصبهان بنية المُضيِّ إلى كرمان.

وفي غُرَّة جمادى الأولى دخلت السيدة أرسلان خاتون إلى بغداد مع الخادم، وخرج الناسُ لتلقِّيها، ومعهم الوزير ابنُ جَهير على فرسخ من بغداد، ودعا لها وهو على ظهر فرسه، ودخلت دارها، وحضر العميد بيت النُّوبة، وقُرئت الكتبُ التي كانت معها، وتشتمل على الطاعة والتصرُّف على قوانين الخدمة والإجابة إلى جميع ما التمس الخليفة، فكان فيها كتابٌ إلى ابن جَهير، عنوانه: الوزيرُ الأجَلُّ، شرفُ الوزراء، فخرُ الدولة. وقبل هذا كان يكتب إليه: الرئيس الأجَلّ. وعزم العميد على العود إلى باب السلطان، فسار يوم الاثنين السابع والعشرين من جمادى الآخرة، وبنى في هذه المدة التي أقام بها ببغداد على قبر أبي حنيفة ﵁ قُبَّةً عاليةً عظيمةً، وأنفق عليها أموالًا كثيرةً، وعمل لها ملبنًا وعلَّاه على مثال قبور آل أبي طالب في المشاهد، وعمل بين يديه رواقًا وصحنًا، وجعله مشهدًا كبيرًا، وعمل بإزائه مدرسةً لأصحاب أبي حنيفة، ورتب لهم مدرسًا، وأوقف عليهم ضيعةً يُصرف مغلُّها إليهم، وفعل في ذلك فِعْلةً حسنةً، ولُقِّب: العميد شرف الملك، ولمَّا انتهت دخل ابن البياضي الشاعر لزيارة المشهد، فقال ارتجالًا: [من الطويل]

ألم ترَ أنَّ العلمَ كان مُبدَّدًا … فجمَّعَهُ هذا الموسَّدُ في المهدِ (١)

كذلِكَ كانتْ هذهِ الأرضُ ميتةً … فأنشرَها جودُ العميدِ أبي سعدِ

[قلت: وقد ذكر علي بن عقيل في كتابه المسمَّى بـ "الفنون" في هذا المعنى فصلًا، فقال: وُضِعَ أساسُ مسجدٍ بين شريح أبي حنيفة في سنة ست وثلاثين وأربع مئة وأنا ابنُ خمس سنين، وكان المنفقُ عليه رجلٌ تركيٌّ قدم حاجًّا، ثم قدم أبو سعد المستوفي -وكان حنفيًّا متعصِّبًا- وكان قبرُ أبي حنيفة تحت سقفٍ عَمِله بعضُ أُمراء التركمان،


(١) جاء البيت في المنتظم ١٦/ ١٠٠ - والخبر فيه بنحوه- وفي البداية والنهاية ١٢/ ٩٥ هكذا:
ألم ترَ أنَّ العلمَ كان مُضيَّعًا … فجمَّعهُ هذا المُغيَّبُ في اللَّحدِ