للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البئر، فإذا ثعبانٌ عظيم قد فَغَر فاهُ نحوه، فرفع عينْه إلى الغُصنين اللَّذين تعلَّق بهما، وإذا في أصلهما جُرْذانِ: أبيض وأسود؛ يَقرِضان الغصنَيْن دائبَيْن لا يَفتُران. فبينْما هو يُعمِلُ الحيلةَ، يتخلَّص مما وقع فيه، إذ حانَتْ منه التفاتةٌ، فإذا بنحلٍ قد عشَّش في جانب البئر، فمدَّ يده إلى عُشِّه، فأخذ من العسل، فلَعِقَه فوجده حُلْوًا، فشَغَله عن الفكر في أمره، والتماسِ النَّجاة لنفسه، ونَسي أنَّ رجليه على أربع حيَّاتٍ لا يَدري متى تُساوِرُهُ إحداهُنَّ، وأنَّ الجُرذين دائبان شي قَرْض الغُصنَيْن، وأنهما متى قَطَعا ذلك وقع في البئر، فالتقمه التِّنِّينُ. فلم يزل مشغولًا بلَعْق العسل حتى قَرَض الجُرذان أصل الغُصنَيْن، فسقط في البئر، فالتقمه التنّين.

فالدنيا هي البئر، والغُصنان الأمل، والطمعُ هو العَسَل، والجُرذان: الأبيض النهار، والأسودُ الليل، يقرضان العمر لا يفتران، والحياتُ الأربع: الأخلاط التي بُني عليها الجسدُ: وهي: البَلغم، والمِرَّةُ الصَّفراء والسوداء، والدمُ، والتنِّينُ الذي في أسفل البئر مَلَكُ الموت، واليسير من العسل لذات الدنيا تُلهيه عن عاقبة ما يَؤولُ إليه أمرُه (١).

[واقعة جرت بالهند]

حكى العلماءُ بأخبار الأوائل أنه كان بالهند ملكُ المِهْراج، وكان عظيمًا يَركَبُ في ثلاث مئة ألفٍ، وكان مجاوره ملك القِمار، فحسد ملكُ القمار ملك المهراج، فقال لوزيره يومًا: في نفسي أمرٌ أحبُّ بلوغَه قبل موتي. فقال له الوزير: وما هو؟ قال: أرى رأسَ ملك المهراج في طَشْت بين يديَّ، فشَقَّ على الوزير وقال: أيُّها الملكُ، وما الذي بدا من ملك المهراج إلينا ما يَستوجبُ به ما خَطَر في نفسك؟! ووالله إنه نِعم الجار، وكان بين المملكتين مِقدارُ عشرين يومًا في البحر، وكان الوزيرُ صالحًا ناصحًا، فقال: أُعيذُك بالله أن يَخطُرَ هذا ببالك، فضلًا عن أن يَشِيعَ عنك. فغضب عليه، وتحدَّث مع غير الوزير بذلك.

وبلغ ملكَ المهراج ما جرى لملك القمار مع وزيره، وكان ملكُ المهراج رجلًا


(١) انظر يتيمة السلطان لابن المقفع ص ١٦٨ (رسائل البلغاء).