للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فاعْمُرْ قبرَك كما قد عَمَرْتَ قَصرك، وانتهزِ الفُرصَةَ ما دام الدهْرُ يقبلُ (١) أمرك، ولا تعتذر فما ثَمَّ مَنْ يَقْبَلُ عُذرَك. هذا ملكُ الهِند وهو عابدُ صنمٍ، ذَهَبَ سَمعُه، فدخل عليه أهلُ مملكته يعزُّونه في سَمعِهِ، فقال: والله ما حُزْني لذهابِ هذه الجارحة، ولكن لصوتِ المظلوم كيف لا أسمَعُه فأغيثُه. ثُمَّ قال: إنْ كان ذهب سَمعي فما ذهَبَ بَصري. ثم نادى في مملكته: لا يَلبَسُ ثوبًا أحمر إلَّا متظلِّم.

ولما دخل رسولُ ملك الرُّوم على كِسرى أنوشروان، قال له: قد أقْدَرْتَ عدوَّك عليكَ بتسهيل الوصولِ إليك. فقال: إنَّما أجلس هذا المجلس لأكشف ظُلامةً وأقضي حاجة.

وأنتَ يَا صَدرَ الإِسلامِ أحَقُّ بهذه المأثَرَة، وأَولى بهذه المَعدَلة، وأحرى من أعدَّ جوابًا لتلك المسألة، فإنَّ الله الذي تكاد السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ منه في موقفٍ ما فيه إلَّا خاشعٌ أو خاضع أو مُقنِع (٢)، ينخلعُ فيه القَلْبُ، ويحكم فيه الرَّبّ، ويَعظُمُ فيه الكَرْبُ، ويَشِيبُ الصَّغير، [ويعزل] (٣) الملكُ والوزير، يومَ ﴿يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾ [الفجر: ٢٣] ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَينَهَا وَبَينَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ [آل عمران: ٣٠] فقد مَحَضتُ لك النَّصيحة مع براءتي من التُّهَمة، فليس لي في الأرض ضَيعة، ولا بيني وبين أحدٍ حُكُومة، ولا بي -بحمد الله- فَقْرٌ ولا فاقة.

فلما سَمِعَ نظامُ الملك الموعظة بكى بكاءً طويلًا، وأمَرَ له بمئة دينار، فأبى أن يأخذها. وقال: أنا في ضيافةِ أَمير المُؤْمنين، ومَنْ كان في ضيافته يَقْبُحُ به أن يأخذَ عطاءَ غيرِه. فقال له: فُضَّها على الفقراء. فقال: الفقراءُ ببابك أكثر منهم على بابي. ولم يأخذ شيئًا.


(١) في (ب) يقيل.
(٢) المقنع: الذي يرفع رأسه ينظر في ذل. "معجم متن اللغة": ٤/ ٦٦٢.
قلت: وفيه إشارة إلى قوله تعالى: ﴿مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾ سورة إبراهيم، الآية: ٤٣.
(٣) في (ع) و (ب) يقل، والمثبت ما بين حاصرتين من "المنتظم".