للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَسْلَمُ في الدُّنيا، وقد فَرَشْتُ حصيرًا في جهنَّم، وقد استحييتُ من كثرة التعدي على النَّاس، وظُلْمي مَنْ لا ناصر له إلا الله. وكان هذا القول منه في اللَّيلة التي قُتِلَ في صَبَاحِها، إلا أَنَّه كان جَوَادًا مُمَدَّحًا، مَدَحه ألفُ شاعرٍ، وكان يجيزهم جوائز كثيرة، وكان قد عَزَمَ على السَّفر إلى أَصبهان، وسُرَادِقُه مَضْروب ظاهِرَ بغداد، وهو يمتنع من المسير ليأخذ له المنجِّمون طالعَ الوقت، فقال: أَدْخُلُ الحَمَّامَ وأخرجُ وقد استوى الطَّالع. فركب وبين يديه من الغِلْمان بالسُّيوف والأسلحة خَلْقٌ عظيمٌ، فاجتاز بالحضائر عند سوق المدرسة (١) قريبًا من النِّظامية، ودخل في زُقاق ضَيِّق، فوثَبَ عليه ثلاثة، فجذبوه من البغلة، فَسَقَط، وانهزَمَ أصحابُه، وبَرَكَ على صدره شيخٌ من الثلاثة، وقال: الله أكبر، أنا مسلمٌ موحِّد، وهذا كافر ظالم. والوزير يصيح: أنا مسلم، ورَجَعَ أصحابُ الوزير على الشيخ، فضربوه بسيوفهم وهو على صدره، فما استرخَتْ يداه حتى ذَبَحَ الوزير كما تذبح الشَّاة، وقتلوا الشَّيخَ وأصحابَه، وأخذوا بارِّيَة (٢) من جانب الطَّريق، فحملوا عليها الوزير.

وكانت زوجته قد خرجت بُكْرةَ ذلك اليوم على بغلةٍ تساوي ثلاث مئة دينار، وفي عُنُقها طوق فيه ألفُ دينار، وبين يديها الجنائب بمراكب الذهب، ومعها مئة وصيفة بمراكب الذَّهب المُرَصَّعة بالجواهر، وبين يديها الخَدَمُ والغِلْمان والحواشي، وجاءت إلى سُرَادقه، فرأته مملوءًا بأنواع الفُرُش، والصَّناديق مملوءة بالدَّنانير، ورأت في الخِيَم شيئًا عظيمًا، فبينا هي كذلك إذ جاءها نعيُه، فخرجت مع جواريها حاسرةً، وهنَّ ناشرات شعورهُنَّ يَلْطِمْنَ ويَصرُخْنَ، فَكُنَّ كما قال أبو العتاهية: [من مجزوء الرمل]

رُحْنَ في الوَشْي وأَصبَحـ … ـنَ عليهنَّ المُسوحُ

[كلُّ نطَّاحٍ من الدَّهـ … ـرِ له يومٌ نَطُوحُ

وقد ذكرنا الأبيات في ترجمة المهدي] (٣)


(١) في "المنتظم": ٩/ ٢٤٠: فقصد سوق المدرسة التي وقفها خمارتكين التُتُشي.
(٢) البارية: الحصير المنسوج، فارسي معرب، انظر: "اللسان" (بري).
(٣) ما بين حاصرتين من (م) و (ش)، وانظر "ديوان أبي العتاهية": ٩٨.