للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال إسرائيل بن عبد المقتدر: أقمتُ مدَّة ثلاث سنين سائحًا مجردًا في جبل الهَكَّار، وجبل لبنان وجبال العراق والعجم، وكانت الأحوال تطرقني، فأَخِرَّ لوجهي، فَتَسْفي عليَّ الرِّياح إلى أن ترى فوق جِلْدي جِلْدًا آخر من الوسخ، فجاءني ذئب ونظر إليَّ متبسمًا، ولَحِسَ جِلْدي كله حتى تركه كالجُمَّارة (١)، فتداخلني العُجْب، فإذا هو قد شَزَرني مُغْضَبًا، وبال عليَّ، فأتيتُ إلى عين ماء، فاغتسلتُ، ودخلتُ قُبَّة في وسط الصحراء، بيني وبين النَّاس مسيرة عشرة أيام من كل قطر، ولا يمرُّ بي أحد، ولا أسمع صوتَ أحد البتَّة، فقلتُ في نفسي: لو قيَّضَ الله لي بعضَ العارفين. فإذا الشيخ عدي بن مسافر إلى جانبي، ولم يُسَلِّمْ عليَّ، فأرعدت من هيبته، وقلتُ في نفسي: ولِمَ لَمْ يُسَلِّمْ علي؟ فقال لي: إنا لا نلتقي بالسَّلام والترحاب من تبول عليه الذِّئاب. ثم ذكر لي جميعَ ما جرى لي في سياحتي، وواجهني بجميع خواطري، وبكلِّ شيءٍ اختلج في سِرِّي، وأضمره قلبي، واقعة واقعةً، حتى ذكَّرني بأشياء أُنْسِيتُها. فقلتُ له: يا سيدي، أشتهي الانقطاع في هذه القُبَّة، فلو كان عندي ما أشرب منه وما أقتاتُ به. فقام إلى صخرتين كانتا في تلك القُبَّة، ووكز إحداهما برجله، فانفجرت منها عينُ ماءٍ حُلْو عَذْب من ماء النِّيل، ووكز الأُخرى، فنبتَتْ فيها شجرة رُمَّان، وقال لها: أيتها الشجرة أنا عدي بن مسافر، أَنْبتي بإذن الله تعالى يومًا رُمَّانًا حُلْوًا ويومًا رمانًا حامضًا. وقال لي: أقم هنا، وكُلْ من هذه الشجرة، واشرب من هذه العين، وإذا أردتني اذكر اسمي آتك.

فأقمتُ في تلك القبة سنين، فكنت آكل من تلك الشجرة يومًا رُمَّانًا حُلْوًا، ويومًا حامضًا، أحسن رمان في الدنيا وأطيبه، وما ذكرتُه قَطُّ إلا وجدتهُ حاضرًا عندي، وينبئني بما يختلج في صَدْري في مُدَّة غيبته عني، ثم بعد سنتين أتيت إلى بلالش، وبتُّ عنده ليلة، فأحرقني بأنفاسه، ومكثت أربعين يومًا أصبُّ عليَّ الماء البارد كل يوم، وإني لأجِدُ النَّار الشديدة في باطني، من هَبَّة أنفاسه.


(١) يعني جمارة النخل، وهي شحمته التي في قمة رأسه، تقطع قمته، ثم تكشط عن جمارة في جوفها بيضاء كأنها قطعة سنام ضخمة، وهي رخصة تؤكل بالعسل "اللسان" (جمر).
وقد شبه جلده بها لبياضها، ولكن لا يوصل إليه إلا بالكشط، والله أعلم.