للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبكِيَانِ، وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ القوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ (١)، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فأُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَيَّ أَمْ لَا؟ ، ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ، وَأُسَارِقُهُ (٢) النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ علَى صَلَاتِي نَظَرَ إِلَيَّ، وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَيَّ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ، مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ (٣) أَبِي قَتَادَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي، وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، أُنْشِدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فنَاشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فنَاشَدْتُهُ، فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

قَالَ كَعْبٌ -رضي اللَّه عنه-: فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، وَتَوَلَّيْتُ، حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ، إِذَا نَبَطِيٌّ (٤) مِنْ أَنْبَاطِ أَهْلِ الشَّامِ، مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ، يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟

فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ، حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانٍ، فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ


(١) جَلْدًا: أي قَوِيًّا في نفسه وجسمه. انظر النهاية (١/ ٢٧٥).
(٢) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (٨/ ٤٦١): أُسَارِقُهُ: أي أَنْظُرُ إليه في خُفْيَةٍ.
(٣) الْحَائِطُ: الْبُسْتَانُ. انظر النهاية (١/ ٤٤٤).
(٤) قال الإمام النووي في شرح مسلم (١٧/ ٧٨): الْأَنْبَاطُ هم فَلَّاحُو الْعَجَمِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>