للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

منهم ليدفع بالخطبة الواحدة من الملمات ما لا يدفع بالبيض المرهفات، ويملك بها من قلوب الرجال ما لا تملكه البدر كما صنع أبو بكر رضي الله عنه في خطبته يوم السقيفة التي امتلك بها قلوب المهاجرين والأنصار وصرف عن الأمة فتنة هي من الأمور الكبار، وكان الخطباء في صدر الإِسلام يخطبون الناس عند طروء كل حادث جلل فلا تقييد لوقت ولا تكليف لقول فكانوا يجمعون المسلمين تارة لإعلان خبر عليهم، وتارة لاستشارتهم ووقتاً لتحذيرهم وآخر لوعظهم وتذكيرهم.

[الشعر]

أما الشعر فقد كان له أعظم التأثير في قلب العربي يحركه كما يحرك الهواء ريشة في الجو وكان عندهم بمثابة الجرائد في هذا الوقت؛ ينطق الشاعر عندهم بكلمته فتتلقاها الأسماع وتدور بعد ذلك على ألسنتهم، وكانت أسواقهم التي بها يجتمعون لإلقاء أشعارهم ومبادلة متاجرهم بالقرب من البيت الحرام وهي عكاظ ومجنة وذو مجاز.

وبالجملة فإن للقرآن تأثيراً عظيم الأهمية لم يوفق لغير القرآن من الكتب الدينية في الأمم الأخرى وفي آداب اللغة العربية الفصحى وفي أخلاق أصحابه ممن سواه لأنهم مكلفون بحفظه قبل كل علم وهم أطفال وهو داخل في كل شيء من الأمور الدينية والدنيوية وأساس شرائعهم القضائية وقاعدة معاملاتهم اليومية وأحوالهم العائلية حتى الطعام والشراب واللباس والنوم والغسل وكل شيء يمكن استنباطه منه وتجد له مثالاً فيه. وهذا لا تراه في غيره من الكتب السماوية.

[فصل أذكر فيه الوازع والحرية]

فأقول: إن الإنسان مثال بطبعه للسعادة إذا أرشد إليها وحثّ عليها. والشرائع إنما شرعت للسعادة البشرية وقوام الحالة الاجتماعية فالوازع الذي يزع الناس بالشريعة لا يحاول بما يزع به قهراً للنفوس ولا حجراً على الإرادة بل يماشي الإرادة ويساعد النفوس على نيل السعادة لهذا فطاعة الوازع من مستلزمات السعادة لا يأباها العقل ولا يهضم فيها حق من حقوق الحرية ما دامت طاعته يراد بها طاعة القانون الذي هو أصل في السعادة لا طاعة الوازع نفسه من حيث كونه أمراً بهواه وشهواته لا مأموراً من القانون ومهيمناً عليه فالحرية مقيدة بقيدين نفسي وخارجي فالنفسي هو الزاجر المديني والفضيلة الذاتية ففي مطاوعة الزاجر النفسي مطاوعة للفضيلة ووقوف

<<  <  ج: ص:  >  >>