للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[كتاب: الطهارة وأسرارها والصلاة وما يتعلق بها]

اعلم: أن الطهارة لها أربع مراتب:

الأولى: تطهير الظاهر من الأحداث والأنجاس والفضلات.

والثانية: تطهير الجوارح من الذنوب والآثام.

والثالثة: تطهير القلب من الأخلاق المذمومة والرذائل الممقوتة.

والرابعة: تطهير السر عما سوى الله تعالى، وهذا هو الغاية القصوى، فمن قويت بصيرته سمت إلى هذا المطلوب، ومن عميت بصيرته لم يفهم من مراتب الطهارة إلا المرتبة الأولى، فتراه يضيع أكثر زمانه الشريف فى المبالغة فى الاستنجاء وغسل الثياب، ظناً منه بحكم الوسوسة وقلة العلم أن الطهارة المطلوبة هي هذه فقط، وجهلاً بسير المتقدمين الذين كانوا يستغرقون الزمان فى تطهير القلوب ويتساهلون فى أمر الظاهر، كما روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه توضأ من جرة نصرانية، وكانوا لا يكادون يغسلون أيديهم من الزُّهم (١) ويصلون على الأرض، ويمشون حفاة، ويقتصرون فى الاستجمار على الأحجار.

وقد انتهى الأمر إلى قوم يسمون الرعونة (٢) نظافة، فترى أكثر زمانهم يمضى فى تزيين الظواهر، وبواطنهم خراب محشوة بخبائث الكبر، والعجب، والجهل، والرياء والنفاق. ولو رأوا مقتصرا فى الاستجمار على الحجر، أو حافياً يمشى على الأرض، أو من يصلى عليها من غير حائل، أو متوضأ من آنية عجوز، لأنكروا عليه أشد الإنكار، ولقبوه بالقذر، واستنكفوا من مؤاكلته.

فانظر كيف جعلوا البذاذة (٣) التي هي من الإيمان قذارة، والرعونة نظافة، وصيروا المنكر معروفاً، والمعروف منكراً. لكن من قصد بهذه الطهارة النظافة ولم يسرف فى الماء، ولم يعتقد أن استعمال الماء الكثير أصل الدين، فليس ذلك بمنكر، بل هو فعل حسن. وليرجع فى معرفة الأنجاس والأحداث إلى كتب الفقه، فإن المقصود من هذا الكتاب الآداب.


(١) الوسخ الدسم.
(٢) الحماقة.
(٣) رثاثة الهيئة، أراد التواضع فى اللباس وترك التبجح.

<<  <   >  >>