للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومنها أن يكون في حبه خائفاً بين الهيبة والتعظيم، فإن الخوف لا يضاد المحبة، ولخصوص المحبين مخاوف في مقام المحبة ليست لغيرهم، وبعضها أشد من بعض، فأولها خوف الإعراض، وأشد منه خوف الحجاب، وأشد منه خوف الإبعاد.

ومنها كتمان الحب، واجتناب الدعوى، والتوقى من إظهار الوجد والمحبة، تعظيماً للحبوب، وإجلالاًله، وهيبة وغيره على سره، فإن الحب سر من أسرار الحبيب. وقد يقع المحب في دهش وسكر، فيظهر عليه الحب من غير قصد، فهو في ذلك معذور، كما قال بعضهم.

ومن قلبه مع غيره كيف حاله ... ومن سره في جفنه كيف يكتم

[٥ ـ فصل في بيان معنى الأنس بالله والرضى بقضاء الله عز وجل]

اعلم: أن من غلب عليه حال الأنس لم تكن شهوته إلا في الانفراد والخلوة، لآن الأنس بالله يلازمه التوحش من غيره، ويكون أثقل الأشياء على القلب كل ما يعوق عن الخلوة.

قال عبد الواحد بن زيد: قلت لراهب: لقد أعجبتك الخلوة، فقال: لو ذقت حلاوة الخلوة لا ستوحشت إليها من نفسك، قلت: متى يذوق العبد حلاوة الأنس بالله تعالى؟ قال: إذا صفا الود، خلصت المعاملة. قلت: متى يصفو الود؟ قال: إذا اجتمع الهم، فصار هماً واحداً في الطاعة.

فإن قيل: ما علامة الأنس؟ قيل: علامته الخاصة ضيق الصدر عن معاشرة الخلق، والتبرم بهم، وإن خالط، فهو كمنفرد غائب مخالط بالبدن، منفرد بالقلب.

واعلم: أن الأنس إذا دام وغلب واستحكم، قد يثمر نوعاً من الانبساط والإدلال، وقد يكون ذلك منكراً في الصورة، لما فيه من الجراءة وقلة الهيبة، وإن كان محتملاً ممن أقيم مقام الأنس. وأما إذا صدر ممن لا يفهم ذلك المقام، أشرف به على صاحبه على الكفر، وذلك كما يروى عن أبى حفص أنه كان يمشى يوماً، فاستقبله رجل مدهوش (١) فقال: مالك؟ قال: ضل حماري، ولا أملك غيره، فوقف


(١) أي: متحير، من دهش الرجل يدهش: إذا تحير.

<<  <   >  >>