للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أحسنه قوله تعالى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها (١) صيرها لشدة جدالها كأنها تجادل عن غيرها. وبقى من أنواع التجريد أن يقصد التشبيه ويكون بمن أو فى نحو: رأيت من فلان أو فيه البحر أو لا يقصد التشبيه ويكون بالباء أو فى نحو: لى به أو فيه صديق حميم فكون المصنف جعل القسم الأول يكون بالباء فقط، والثانى بمن لا يظهر لى وجهه، واعلم أن فى انطباق بعض هذه الأقسام (على حد التجريد السابق) نظرا لأنك فى نحو: لا خيل عندك لم تجرد شيئا مثل نفسك فى صفة، بل جردت ذاتا من ذات لا باعتبار صفة إلا بأن نؤول على الصفة، واعلم أيضا أن حد التجريد يقتضى أن يكون المذكور هو المجرد، والذى يظهر فى نحو: رأيت منك صديقا ذلك، فيكون الصديق مجردا، والمخاطب مجردا منه، وفى نحو: رأيت بفلان البحر، أنك جردت من البحر حقيقة أخرى، وجعلتها الإنسان، إن كانت الباء للسببية، أى بسبب رؤية فلان، وإن كانت ظرفية فتكون جردت من البحر بحرا آخر جعلته فى الإنسان، ويحتمل أنك جردت الأوصاف الجسمية عن الإنسان، فإذا قلت:" سألت بفلان البحر" كأنك جردت عنه أوصافا جسمية وغيرها، فيكون البحر مجردا عنه لا مجردا، كأن البحر كان فى ضمنه، فلما أزيلت أوصاف الإنسان غير كونه بحرا لم يبق إلا البحر، فكان هو المسئول.

(تنبيه): يؤخذ من كلامهم أن فى" الباء" التجريدية قولين: أحدهما، أنها سببية، وأشار إليه فى الكشاف حيث قال فى قوله تعالى: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٢) أى: فاسأله بسؤاله خبيرا، كقولك: رأيت به أسدا، أى: برؤيته انتهى، ونقل مثله عن أبى البقاء. والثانى: أنها ظرفية، واقتضى كلام الطيبى على الكشاف نقله، وأن قوله تعالى: فَسْئَلْ بِهِ لا حاجة فيه إلى تقدير سؤاله، بل هى تجريدية من غير هذا التقدير، وأما من التجريدية، فكلام الزمخشرى يقتضى أنها بيانية حيث قال فى قوله تعالى: هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ. (٣) يحتمل أن تكون بيانية، كأنه قيل: هب لنا قرة أعين ثم بين القرة بقوله: مِنْ أَزْواجِنا وهو من قولهم: رأيت منك أسدا أى أنت أسدا انتهى، وفيه نظر، لأن من البيانية عند المثبت لها شرطها، أن يتقدم عليها المبين، والظاهر أن من التجريدية ابتدائية، أو ظرفية.


(١) سورة النحل: ١١١.
(٢) سورة الفرقان: ٥٩.
(٣) سورة الفرقان: ٧٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>