للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلذلك تعدّت هذه الأفعال، وإن لم تكن مؤثرة، لتعلُّقها بما ذكرنا واختصاصِها به. ولأجل كونها ضعيفة في العمل، جاز أن تُلْغى عن العمل. وهذه الأفعال لها أحوال ثلاثة: تكون متقدّمة على المبتدأ والخبر، وتكون متوسّطة بينهما، وتكون متأخرة عنهما.

فإذا تقدمت، لم يكن بد من إِعمالها؛ لأنّ المقتضى لإعمالها قائم لم يوجد ما يُوهِي الفعل، ويسوّغ إبطال عمله، فوَرَدَ الاسم، وقد تقدّم الشَكّ في خبره، فمَنَعَه ذلك التقدم من أن يجري على لفظه قبل دخول الشك.

فأما إذا توسطت، أو تأخرت، فإنه يجوز إلغاؤُها؛ لأنها دخلت على جملة قائمة بنفسها. فإذا تقدمت الجملة أو شيء منها، جرت على منهاجها ولفظها قبل دخول الشك، وصُيّر الفعل في تقدير ظرف له، كأنك قلت: "زيدٌ منطلقٌ في ظنّي"، مع أن الفعل يضعف عملُه إذا تقدّمه معموله بإبعاده عن الصدر. ألا ترى أن قولك: "ضربتُ زيدًا" أقوى في العمل من قولك: "زيدًا ضربت"؛ ولذلك يجوز تقويةُ الفعل بحرف الجرّ إذا تقدّم معموله عليه، فتقول: "لزيد ضربت"، ولا يحسن ذلك مع تأخُّره؟ فكذلك إذا قلت: "زيدٌ أظن منطلقٌ" يجوز الإعمال والإلغاء، نحو قولك: "زيدٌ حسبت منطلقٌ"، و"زيدًا حسبت منطلقًا"، و"زيد منطلق حسبت". فإِذا ألغيت، كان الفعل في تقدير ظرف متعلق بالخبر، كأنك قلت: "زيد منطلق في حِسْباني وظنّي". وإذا أعملت، كان الفعل في حكم الأفعال المؤثّرة، نحوِ: "أبصرت"، و"ضربت"، و"أعطيت".

واعلم أنه كلّما تَباعد الفعل عن الصدر، ضعُف عمله، فإذًا قولك: "زيدًا حسبت قائمًا" أقوى من قولك: "زيدًا قائمًا حسبت"؛ و"زيدًا قائمًا حسبت" أقوى من قولك: "زيدًا قائمًا اليوم حسبت". كلّما طال الكلام ضعُف الإعمال مع التأخر. فأما قوله [من البسيط]:

أبالأراجيز ... إلخ

البيت للّعِين المِنْقَريّ يهجو الحجّاج. والشاهد فيه إلغاءُ "خلت" حين قدم الخبرُ، وهو الجارّ والمجرور، وتوسّط الفعلُ. فاللؤم مبتدأ، و"الخور" معطوف عليه، و"في الأراجيز" الخبز، و"خلت" مُلْغَى لتوسُّطه، والمعنى: أتُهدِّدني بالهجاء والأراجيز، وذلك من أفعال اللُّؤَماء والنَّوَكَة، ومَن لا قدرة له؟

وكذلك المصدر حكمه حكم الفعل، فيجوز إلغاؤه حيث جاز إلغاء الفعل، ومعنى إلغائه إبطال عمله لا إبطال إعرابه، فتقول: "متى زيدٌ ظنك ذاهبٌ؟ " و"زيدٌ ذاهبٌ ظنّي"، فـ "زيدٌ" مرتفع بالابتداء، وخبرُه "ذاهب"، و"متى" ظرفٌ للذهاب، و"ظنّك" مصدر منصوب بفعل مضمر مُلغى، كأنك قلت: "متى زيدٌ تظنّ ظَنَّك منطلقٌ". وهذا تمثيلٌ؛ لأنه قبيحٌ أن يؤكَّد الفعل الملغى. وإنما جاز مع المصدر إذا كان منفردًا, لأنه قد صار

<<  <  ج: ص:  >  >>