للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والكوفيون (١) لا يعرفون هذا الأصل، ويُجرون " أيًّا" مجرَى "مَنْ"، و"ما" في الاستفهام والجزاء، فإذا وقع الفعل عليها، وهي بمعنَى "الذي"، نصبوها لا محالةَ، فيقولون: " أضربُ أنهم أفضل". ولا فرقَ عندهم بين "أيّهم هو أفضل" وبين "أيّهم أفضل"، وحكى هَارُونُ (٢) عنهم أنّهم قرؤوا الآية بالنصب. ويؤيد ذلك ما حكاه الجرمي، قال: خرجتُ من الخَنْدَق - يعني خندق البصرة - حتى صرتُ إلى مكة، فلم أسمع أحدًا يقول: "اضرب أيُّهم أفضل"، أي: كلّهم ينصب، ولم يذكر الكوفيون "أيّهم أفضل"، وحكاه البصريون. فأما الآية ورفعُها، فلهم فيها أقوالٌ:

أحدُها: -وهو قول الكسائي والفرّاء- أن الفعل اكتفى بالجارّ والمجرور عن مفعول صريح، كما يُقال: "قتلت من كل قبيل"، و"أكلت من كل طعام"، فكذلك وقعت الكفايةُ بقوله: "لننزعنّ من كل شيعة"، وابتدأ بقوله: "أيّهم أشدّ على الرحمن عتيًا".

الثاني: وهو أن العامل في الجملة فعلٌ دلّ عليه "شيعةٌ"؛ لأنّ الشيعة الأعوان، والمعنى: ثمّ لننزعن من كل قوم تَشايعوا لينظروا أيهم أشدّ. والنظرُ والعلمُ من أفعال القلب، يجوز تعليقهما وإسقاط عملهما إذا وليهما استفهامٌ. وكان يونس (٣) يرى تعليقَ "لننزعنّ" وما كان نحوه من غير أفعال القلوب، نحوَ: "اضرب أيّهم أفضل" على تعليق العامل، وشبهه بـ"أشهدُ إنك لَرسولُ الله". وقد تقدّم إفسادُ ذلك، وأنه لا يكون إلَّا في أفعال القلب.

والوجهُ ما ذهب إليه سيبويه, لأنّ نظيرَ "أيهم"، "مَن"، و"ما"، وهما مبنيّان، وكان حق "أيهم" أن يكون مبنيًّا كأخواته لوقوعه موقعَ حرف الاستفهام، أو الجزاء، أو موقعَ "الذي"، فلمّا سقط أحدُ جُزءي الجملة من الصلة، وهو العائد، نقص، فعاد إلى الأصل، وهو البناء. وأمّا مذهب الخليل وإرادةُ الحكاية وإضمارُ القول، فهو شيء بابُه الضرورة، والشعرُ أجملُ به، فلا يُصار إليه، وعنه مندوحة. قال سبيويه (٤): ولو اتسع هذا في الأسماء، لقيل: "أضربُ الفاسقُ الخبيثُ" (٥) على الذي يُقال له: "الفاسق الخبيثُ". وأما قول يونس وتشبيهُه إياه بـ"أشهد إنك لرسولُ الله"، فلا يُشبِهه؛ لأنّ ما بعد "أشهد" كلامٌ مستقل قائم بنفسه، وليس كذلك "أيّهم أفضل".


(١) انظر المسألة الثانية بعد المئة في كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين". ص ٧٠٩ - ٧١٦.
(٢) الكتاب ٢/ ٣٩٩.
(٣) الكتاب ٢/ ٤٠٠.
(٤) الكتاب ٢/ ٤٠١.
(٥) أي: الذي يقال له الفاسق الخبيث.

<<  <  ج: ص:  >  >>